الإهداءات |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
10-09-2012, 12:09 AM | #21 | ||||
قوة السمعة: 452
|
رد: مكتبة الأديب الفلسطيني الشهيـــد // غســــان كنفاني
ذكريات مع غسان كنفاني أمين فرع سوريا لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين لو عدنا بذاكرتنا التاريخية إلى الوراء، وحاولنا أن نتذكر العمليات التي نفذها الموساد الصهيوني منذ العام 1948م وحتى الآن، فسنجد الوقائع الأساسية التالية: هناك واقعتا اغتيال الرائد مصطفى حافظ في غزة وكان قائداً لكتيبة الفدائيين التي تشكلت عام 1955م، وفي موازاتها أيضاً كانت عملية اغتيال المقدم صلاح مصطفى في السفارة المصرية في الأردن، وكان يشرف على الفدائيين الذين ينطلقون إلى فلسطين المحتلة، بعد ذلك كانت وقائع الطرود الملفوفة التي أرسلت الى العلماء الألمان الذين كانوا يتابعون برنامج إنتاج الصواريخ المصرية التي عرفناها شفوياً باسم الظافر والقاهر..، بعد ذلك جاء اغتيال غسان كنفاني ليكون بداية سلسلة الاغتيالات التي وجهت لقيادات معينة في الساحة الفلسطينية، حتى اغتيال (أبو جهاد) خليل الوزير رحمه الله لم يكن منفصلاً عن واقعة واحدة في سجل نضال أبو جهاد الطويل، هي أنه نجح في إعداد خلية فدائية وصلت الى النقب، وبالذات الى الطريق المؤدي الى المفاعل النووي في ديمونة، وهاجمت سيارة باص على ذلك الطريق، فكانت تلك العملية النوعية بهدفها سبباً للاغتيال. هذا الأمر يجعلنا نتساءل.. لماذا اختير غسان كنفاني ليكون أول الشهداء الذين استهدفهم الموساد الصهيوني؟ لا شك في أن الموساد الصهيوني قرأ في غسان كنفاني أشياء ربما كانت غائبة حتى عن تفكيرنا وحساباتنا نحن بالنسبة لقيم القادة والرجال! عرفت غسان كنفاني كاتباً في جريدة المحرر اللبنانية وكنت أراسلها منذ كنت طالباً في قطاع غزة، وكانت تنشر لي فيها مواد ما بين الحين والحين، أحياناً باسمي الصريح وأحياناً أخرى باسم رائد غنيم، حينها كنت أتابع كتابات غسان بعد ذلك، ثم كتاباته في <<الحرية>> وتعرفت عليه بصفة شخصية ومباشرة ربما قبل أربعة أو ثلاثة أسابيع فقط من واقعة اغتياله حين صرت وإياه عضوين في اللجنة الإعلامية ل<<م.ت.ف.>> في بداية تشكيلها في بيروت، وكان رئيس هذه اللجنة الشهيد كمال ناصر. من خلال لقائي المباشر بغسان، اتضح لي شيءأساسي فغسان ليس من النوع الصدامي في قضايا الفكر والتحالف، إن كان في الجبهة الشعبية أو في إطار حركة القوميين العرب، ومثله أيضاً الدكتور أنيس صايغ يشكلان نمطاً خاصاً من الرجال الذين يغلبون الفكر على العاطفة والذين يبحثون عن القواسم المشتركة في العلاقة مع باقي القوى، أكثر مما يبحثون عن قضايا الخلاف. مثل هذه العقلية التي تميز بها غسان وتميز بها أنيس صايغ أعتقد أنها كانت تشكل سبباً ملائماً لكي يكون كل واحد منهما هدفاً للاغتيال، ولكي تبدأ عملية الاغتيالات بغسان كنفاني. ونفس الأمر يمكن أن ينطلق على الشهيد كمال ناصر رحمه الله الذي كان بمثابة حمامة السلام في الساحة الفلسطينية، الرجل الذي يجمع ولا يفرق، يحاول أن يقرب وجهات النظر في كل اللقاءات والاجتماعات في بحث جميع المسائل. إذن.. نستخلص من هذا أن العدو (وهذا أمر ثابت في استراتيجيته التي تقوم على التشتيت الاستراتيجي، على تفتيت الطرف العربي)، كان يهمه تفتيت العمل الفلسطيني المقاوم، كان يهمه أن تظل هناك أسوار وفصائل متعددة ومتناحرة ومتسابقة، بحيث من خلافاتها هذه ومن تعددها ومن الفوضى التي تنتج عن الخلافات وتعدد الاجتهادات تكون فرص العدو أكبر للنيل من الساحة الفلسطينية، وعلى أساس هذه القاعدة رسم الموساد خططه التنفيذية لتحديد مَن من القادة الفلسطينيين يوضع على قائمة الاغتيالات والتخلص منه أولاً، وبالتالي تجريد الشعب الفلسطيني من الطاقة الفكرية التي يمثلها هذا القائد، ومن القدرة التوحيدية التي يشكلها في الساحة الفلسطينية وفي المرحلة التي نعيش فيها الآن، وصلنا في الواقع الى ظرف يتحدد فيه شرط آخر من قبل الرئيس الأميركي بوش حددهما على أساس رؤية طرحها شارون وطرحتها الجهات المحددة للاستراتيجية الصهيونية، هناك الطلب الأول تغيير القيادة الفلسطينية أو بالأصح تغيير عقلية القيادة الفلسطينية، طبعاً هم لا يريدون تغيير هذه العقلية بالاتجاه الذي يريده الشعب الفلسطيني، وإنما يريدون تغيير هذه العقلية بالاتجاه الذي يريدونه هم والذي يكون بالتالي مستعداً للتنازل والمساومة والتعايش مع الاحتلال بكل شروطه وفق سياسته القائلة بالاحتفاظ بالأرض دون السكان، وهناك الشرط الثاني وهو التخلص من المقاومة، وما يقوم به العدو عملياً على أرض الصراع هو محاولة منه للوصول الى ما يسمونه بالمطلوب رقم (1)، لقد كان المطلوب رقم (1) يحيى عياش كمهندس في صنع المتفجرات وترتيب العمليات، ثم تتالت سياسة الاغتيالات الصهيونية للقادة الفلسطينيين، حتى أصبحنا الآن أمام المطلوب رقم (1) ثم الخمسين ثم المئة وهكذا سيبقى هناك المطلوب رقم (1) ما استمرت عمليات المقاومة الفلسطينية، لكن على صعيد القيادات الفلسطينية، وعلى صعيد الفكر الفلسطيني. كان الفاعل في الساحة الفلسطينية غسان كنفاني هو المطلوب رقم (1) لذلك حين نستذكر واقعة اغتيال الشهيد غسان كنفاني، فإننا في الواقع نستذكر كل السلسلة من أولها وحتى النهاية.. هذا إذا كنا قد بلغنا النهاية.. لأن الصراع قائم ومستمر، وفي كل يوم يسقط شهيد وكل هؤلاء الشهداء لهم ما لغسان وغسان كان لهم.. وهم منا ونحن منهم.. وهذه مسيرتنا، وأعتقد أن درس عقلية غسان.. أسلوب غسان.. فكر غسان.. مقالات غسان السياسية والأدبية من شأنها أن تغنينا في تصور ما يجب أن تكون عليه الحال في إعادة ترتيب أوضاع نضالنا الفلسطيني وصولاً إلى أفق أفضل. عبد الرحمن غنيم |
||||
|
|||||
اقتباس المشاركة |
10-09-2012, 12:09 AM | #22 | ||||
قوة السمعة: 452
|
رد: مكتبة الأديب الفلسطيني الشهيـــد // غســــان كنفاني
لماذا اغتيل غسان كنفاني؟ في الثامن من تموز سنة 1972، كنت أزور بعض أقاربي في مخيم الجليل المجاور لمدينة بعلبك اللبنانية. وعند الظهر أو زهاء ذلك، أعلنت أجهزة المذياع نبأ استشهاد غسان كنفاني، الذي امتدت إليه يد الغدر تماما عندما بلغ ذروة النضوج. وحين انتشر الخبر بين الناس شاهدت في الوجوه حزنا لا يبزه أي حزن آخر، من حيث الأصالة والصدق، سوى ذلك الحزن الذي سبق لي أن رأيته في الثامن من نيسان سنة 1948. لم يقيّض لي أن أشاهد غسان كنفاني، الذي هو أكبر مني بسنتين فقط، ولم أكن قد طالعت سوى النزر اليسير من مؤلفاته قبل يوم استشهاده. ولكنني أدركت فور سماعي للنبأ الفاجع أن الرجل لا بد له من أن يكون كاتبا وطنيا شديد الأهمية وعظيم القيمة، وإلا لما اغتاله أولئك اليهود اللئام، قيوح التاريخ المنتنة، الذين أدمنوا كل صنف من أصناف النذالة والخبث، كما أدمنوا التخطيط للأعمال الخسيسة، والتآمر الحقير في حلك الظلم، ولهذا، فقد رحت أبحث عن مؤلفاته وأقرأ كل ما وقع منها تحت يدي. وبعد ذلك بمدة من الزمن كتبت مقالة مطولة له عنوانها <<غسان كنفاني روائياً>>، ونشرتها في مجلة <<المعرفة>> الدمشقية، وذلك سنة 1977. ثم نشرت مقالة أخرى في إحدى الصحف، وكانت تدور حول الشعور المأساوي في أدب غسان، وفي عام 1985 جمعت المقالتين معاً في كتيب صغير عنوانه <<رعشة المأساة، دراسة في أدب غسان كنفاني>>، وقد صدر عن دار منارات في عمان. ولست أعرف كتابا مكرسا لغسان قبل ذلك الكتيب الصغير. ولقد نشرت عدة مقالات صغيرة أخرى حول ذلك الكاتب الشهيد، ولا سيما في مناسبات استشهاده. كما كتبت دراستين مخصصتين لقصصه ومسرحياته، ونشرتهما منذ زمن بعيد. ولكني أعدت كتابة المقالة الثانية المكرسة لمسرح غسان، وسلمتها لمجلة <<المعرفة>>. وفي نيتي أن أضيف هاتين المقالتين الى الكتيب الآنف الذكر الذي أرجو أن أتمكن من إعادة نشره في زمن قريب. لماذا اغتيل غسان كنفاني؟.. لأنه كان يؤمن بأن دويلة اليهود التافهة ينبغي أن تزول من الوجود. لهذا السبب حصرا امتدت إليه أيدي الصهاينة اللئام الذين تمكنوا من تسخير الغربيين في خدمة مشروع زائف يهدف إلى إنشاء صنف من أصناف الغيتو على شطر صغير من الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط. ومن أجل إنجاز هذا المشروع التافه استطاعوا أن يحشدوا جميع القوى العظمى في هذا العالم الخسيس. فيا له من كيان مصطنع أنجبه كتاب إجرامي سافل اسمه التوراة. يقيناً، إن ذلك الكتاب هو أحقر الكتب التي ألفها الجنس البشري منذ فجر التاريخ وحتى يوم الناس هذا. ولهذا، فإن الغيتو الصهيوني الشاذ لا يساوي عند ذوي الألباب أكثر من قشرة بصلة، كما يقول أهل قريتنا يوم كانت لنا قرية. ففي صلب الحق أنه خرط كلاً من العرب واليهود في محنة لا يلوح في الأفق أي مخرج منها حتى الآن. ولكن أهم ما في أمر ذلك الغيتو الحقير أنه يعيش على نحو طفيلي مثل الأشنيات. وعندي، أن المصدر الأكبر لتمويله هو ما ينهبه الغربيون من نفط العرب المستكينين للأميركيين استكانة الميت بين يدي الغاسل. لقد كانت ميزانية الغيتو الصهيوني أربعة وستين مليارا من الدولارات سنة 2001، فمن أين جاء اليهود بهذا المبلغ الباهظ؟ ويبدو لي أن حصة الصهاينة من نفط العرب تساوي حصة البلدان العربية كلها من النفط نفسه. ومن اعترض على هذا النهب الفظيع فهو عدو للحرية والحضارة والديموقراطية، كما أنه أصولي وإرهابي يستحق الموت والزوال من الوجود. ومن الغرائب أنني لا أعرف أحداً قد تنبّه لميزانية الغيتو الصهيوني وللدلالة المريعة التي تنطوي عليها. ولكن الأمر يتلخص على هذا النحو الوجيز: لقد بنيت دويلة اليهود التافهة بإرادة العرب (إن كان للعرب إرادة)، وكذلك على أرضهم وبأموالهم، أي إن الحقيقة هي على النقيض تماماً مما يتبيّن فوق سطح الأشياء. فأية مؤامرة قذرة تلك التي تجري في منطقتنا منذ زمن لا يسعني تحديده تخميناً؟!! ولا بأس في التأكيد من جديد على أن غساناً قد اغتيل لأنه كان ملتزماً بأفكار التيار الفلسطيني الأصلي الذي يؤمن إيماناً نهائياً بأن اندثار الغيتو الصهيوني وتدميره وإزالته من الوجود هو حتمية تاريخية لا بد منها، ويتوجب على الفلسطيني أن يعمل من اجل إنجاز هذه الغاية العظمى، ولو بعد ألف سنة. وهذا يعني أن على البرامج السياسية الفلسطينية، وهي عندنا موضع ريب، أن تتبنى قضية فلسطين على نحو جذري حاسم، فإما الذكورة وإما الأنوثة في هذا الوضع التاريخي العسير. ولا وساطة بتاتاً. أما الحال الخنثى التي تعيشها القيادة الفلسطينية ولا سيما أولئك الذين هندسوا معاهدة أوسلو الشائنة، فلن تفضي إلا الى مزيد من إذلال الشعب الفلسطيني. ففي أوسلو وقع الفلسطينيون على صك استسلامهم، وهم صاغرون، ولكنه صك وقعه أناس الفنادق. ولهذا، فإن فكرة التعايش مع اليهود هي فكرة خنثوية جزما، بل إنها مغلوطة من جذورها بكل تأكيد. ففي الحق أن شايلوك يأخذ ولا يعطي، كما أنه لا يتعايش مع أحد، ولا يقبل الفلسطيني الا ميتا أو راكعاً وحسب.. ولقد اثبتت أحداث هذه السنة أن الفلسطينيين ما نالوا سوى الأوهام بعد اوسلو. اطرحوا هذه الفكرة المخنثة الى سلال القمامة، ونبهوا المستخذين الراكعين أمام اليهود، أقصد أولئك الخنثويين الذين لا أراهم ذكورا ولا إناثا، ولكم صدق ذلك الفيلسوف اليونني حين قال <<أعدل الأشياء المعركة>>. .رحم الله شهداءنا جميعا والخلود لكاتبنا الشهيد غسان كنفاني يوسف سامي اليوسف |
||||
|
|||||
اقتباس المشاركة |
10-09-2012, 12:11 AM | #23 | ||||
قوة السمعة: 452
|
رد: مكتبة الأديب الفلسطيني الشهيـــد // غســــان كنفاني
من موقدة البيت إلى موقدة الثورة إنني على قناعة بأن قراءة غسان كنفاني قراءتان، قراءة لنصوصه، وقراءة لحياته. في الأولى، نجول في عوالم المخيلة، والرؤى، والذات ومواجعها، والناس وحرائقهم الأبدية. وفي الثانية نمسك بيد التاريخ الذي يدلنا على البقع الأرجوانية العديدة بدءا من طفولة غسان في عكا ويافا، ورحلة المنفى الى صيدا وبيروت، ثم حمص، فالشام. وحياة القهر والمغالبة، والسخرية المرة من الأزمنة الباهتة، والظروف المعطوبة باليباس القحل. بكاء الأم الصامت، تآخيها والليل، والشرود الطويل، وقلق الأخت الكبرى فايزة التي تريد اختراع درب لإخوتها غازي، وغسان، وعدنان، ومروان.. ومن ثم حسان.. درب لا التواء فيه أو تورية في زمن صار جوهره الالتواء والتورية. وأب ما زالت عكا تركض في دمه، حقولاً، وناساً، وذكريات، وأمكنة؛ أب تأخذه حمى الاقتلاع تأخذه من دور الى دور وهو في عز صحوه وفتوة الشباب. غسان الذي يجمع أكياس (الشمنتو) الفارغة من أمام البنايات، والبيوت التي تبنى حديثا ليصوغها أكياسا جديدة بمساعدة صمغ أشجار الزبداني، ثم كتابته للعرائض أمام المحاكم، والصبر على الناس وهم يفتحون جروحهم أمامه، والفرجة المؤسية على همومهم الولود يوميا، ثم حلول اللعنة المركبة.. مرة أخرى، فبعد تشرد الأسرة بكاملها من فلسطين الى لبنان الى سوريا، بدأت أعراض اللعنة الجديدة.. تشرد أفراد الأسرة واحدا واحدا في غربة أزلية لا بد منها. تتغرب الأخت الكبرى فايزة.. بصك شهادتها الثانوية، فتترك البيت لتدرّس في بلدة قارة يصحبها أخوها غسان الذي يسوّغ بحضوره هذا الغياب أو يقلل مفاعيله، ثم تتغرب فايزة مرة أخرى الى الكويت وحيدة، ليلحق بها بعد عام أخوها غازي، ثم يلحقها بعد سنوات أخوهما غسان.. وبذلك تنقسم الأسرة الى أفراد.. هنا وهناك، والى أمكنة، هنا وهناك، وإلى عواطف ومشاعر، هنا وهناك، بعدئذ يطير غازي الى أميركا ليدرس الهندسة الزراعية، وتتزوج فايزة بعيدا عن الشام، ويغيّر غسان منفاه من الكويت الى لبنان، وبذلك تتجسد الغربة المركبة.. لتصير هي ثقافة البيت؛ ثقافة النص الذي سيكتبه غسان، ثقافة المقاومة تجاه الزمن الأصفر، الشاحب المتصالح كذبا مع التاريخ، والناس، والمستقبل. ويوغل غسان في الغربة حين يمضي في ذهابه الأخير، في 8 تموز 1972. (2) كلما أقرأ نص غسان كنفاني المكتوب، أشعر بالحاجة الملحة لقراءة نص حياته الحقيقي لقناعتي بأن أحدهما وريث الآخر، وأحدهما طاقة الآخر ومخزونه، وأحدهما متراس الآخر وخندقه، وأحدهما سبب الآخر أو نتيجته. أشعر أن نص غسان كنفاني المكتوب يصير أحلى وأكثر زهوا حين يتداخل وحيوات الأب المحامي، والأم موقد البيت وجمره، والأخت الشبيهة بتلك الأخت الوحيدة للإخوة السبعة في قصص الشطار وحكاياتهم: الأخت الباحثة عن سعادتها طي سعادة إخوتها. لهذا أشعر أن محبة نصوص غسان كنفاني المكتوبة تتضايف اكتمالاً بمعرفة حياته التي عاشها، وتعالقها مع حيوات إخوته ووالديه. وإذا ما كان غسان كنفاني وريثا لشيء من والديه وأخته الكبرى، فإن ذلك يتمثل بالطموح الذي لا يعرف النهايات، لا بل أكاد أقول الطموح الذي لا يعرف الخواتيم قط! ولذلك أرى أن لغسان كنفاني أربعة آباء، والديه، وأخته الكبرى فايزة، وتاريخ حياته المر! وحين أقرأ نص غسان كنفاني المكتوب أتعجب حقيقة من قدرته على الامتلاء دائماً حتى ليبدو لي أن كائنات أو خلقاً خفيين يعملون ليل نهار على نص غسان كنفاني ليظل ممتلئا وغنيا بالأسرار والكشوفات الجديدة، أو لكأن الزمن يعمل لدى نص غسان كنفاني يدا تمحو القدم كيلا تصيبه لوثة البلى، ويدا تبقي معنى القدم شاهدا على الابتكار الأصيل، والروح المتجددة، والأبدية البادية. أقول هذا، وأنا أقرأ نصوص الذين سبقوا غسان كنفاني في الكتابة الأدبية، والأسماء كثيرة، فلا أجد في نصوصهم الحيوية، والغنى، والجمالية، والأبدية المشتقة من الطبيعة كما هي موجودة في نصوص غسان كنفاني. أحس بإحساس عميق أن نصوصهم كتبت عن الماضي؛ عن خلق عاشوا في الماضي وساكنوه؛ وعن أمكنة صارت بعيدة نائية؛ أمكنة لا تلامسها مشاعرنا ولا تحن إليها، وعن تشوفات وأحلام باتت ماضوية، أحس بأنها نصوص لا تورث، وأن ما من أحد يوصي بقراءتها إلا باعتبارها تاريخا، وبدءا لنشأة العمران القصصي الفلسطيني، كما أقرأ النصوص التالية على نصوص غسان كنفاني، فأجد معظمه، والأسماء كثيرة، مصابا بلوثة المناسبة، والتعليق على الأحداث، واستجداء الرضى الآني الكذوب للجريدة المقاومة، والمخيم المقاوم، والزمن المقاوم، وسيد الإعلام المقاوم، ودائرة الإعلام المقاومة، والسقوط المقاوم، والبيتزا المقاومة.. إلخ. بلى، ثمة أمر مخالف، ونوعي، وسراني تماما موجود في نص غسان كنفاني والذي أشخصه على النحو الآتي: موهبة إبداعية فذة نادرة الحضور، وإيمان نبيل وعميق بالإبداع، يجسدهما عمل دائب دائم كخزاف أبدي النقش والصقل، وسلوك مشدود الى القيم السامية، وانشداد حاسم أصيل الى حلم أصيل، ووعي ثقيل كالرصاص بآثار التراجيديا الفلسطينية.. لهذا أتساءل هل كان غسان كنفاني يشعر على نحو مبكر بأن الفلسطينين هم يونانيو العرب، وأنه هو شاعرهم هومير؟! بلى، لعل غسان كنفاني كان يشعر بذلك، فلولا هذا الشعور الغامر لما أبدع غسان كنفاني إبداعه الذي يماشي الزمن خديناً له في الأزلية، والحضور، والسطوة، والأهمية والاعتبار. ولولا هذا الشعور لاكتفى غسان كنفاني بأماديح الصحافة اللبنانية ورجالها، إذ لم يكن في تلك الآونة، مساء يعمر بالناس والأحاديث إلا وكان اسم غسان كنفاني جرسا يرن فيها مثل رنين الفضة المعتقة، وما كان يدور حوار أو نقاش حول الأدب في مشرق بلدان العرب أو مغربهم إلا وكان إبداع غسان كنفاني حاضرا كإنجيل أدبي لشعب صغير جدا أنتج زمنه المنهوب مأساة كبيرة جدا! ولولا ذلك الشعور لاكتفى غسان كنفاني بالريادة، والمكانة، والأستاذية الأدبية في منفاه الأول في الكويت.. حين لم تكن هناك قصة أو رواية، ولولا ذلك الشعور لاكتفى غسان كنفاني بالوجاهة السياسية، والصحبة الطيبة، ورضى أستاذه الحكيم جورج حبش، ولولا ذلك الشعور.. أيضا لاكتفى غسان كنفاني بسطوة المسميات (كرئيس التحرير)، و(الناطق الرسمي) و(مؤسس اتحاد الكتاب والصحفيين)، و(رئيس دائرة الإعلام).. ذلك الشعور بأن شعبه ينهض مرة أخرى وأخيرة، وأنه هو شاعره الذي يعد له موثباته، هو بالضبط ما جعله يصير منجما للإبداع الصافي؛ منجما يتعاون فيه الألم والقهر والحزن والحنين والقلق والخوف والطموح والموهبة من أجل إنجاز الصياغة الأخيرة لدمغة الأدب الكنفانية. (3) دائما، ما تحلو لي المقارنة ما بين غسان كنفاني واثنين من مبدعي العرب والغرب معاً، وذلك لما تميز به هؤلاء الثلاثة ولما اتصفوا به من مشتركات كثيرة، هذان الاثنان هما المتنبي، وهمنغواي، وثالثهما غسان كنفاني؛ كلهم أصابهم سهمان، الأول: سهم الغربة، والثاني: سهم الموهبة الراقية والطموح العالي. انظروا الى هؤلاء الثلاثة، واعصروا تجاربهم وحيواتهم، وراقبوا سلوكهم، وادخلوا نصوصهم، واقتربوا من أحلامهم قليلا، وقفوا على تاريخهم.. إن فعلتم ذلك.. فلن تجدوا سوى الموهبة النادرة، والإبداع الصادق والنفس القلقة التي لا تقف عند عتبة، لا بل ستجدون أنهم أورثوا البشرية قرى من الإبداع الشعري والنثري معاً. ثلاثة عقول، وثلاث مواهب، وثلاثة رجال، وثلاث تجارب، لم يقوَ عليها الزمن ولا الحاسدون، ولا الطغاة الصغار إلا بالقتل! لكن، يا للعجب، فلم يكن الموت لدى هؤلاء الثلاثة سوى نقطة انطلاق لخلود حبّروه مساهرة للإبداع الصافي، والقضايا المؤرقة، وإيمانا بالإنسان والإنسانية في آن واحد. والحق، فإن العين الرائية الى نصوص غسان كنفاني.. تشير الى أنه لم يهتم بالمخيم الفلسطيني كمكان، لقناعته بأنه مكان طارئ، قارب جغرافي ليس إلا، وسهرة ليلة فحسب. ولم يهتم بالبندقية لاعتقاده بأنها أداة ووسيلة، ولم يجسم حضور القواعد الفدائية لأنها خنادق تتلوها خنادق، لأنها حاشية من حواشي الحياة الفلسطينية الجديدة، أو الممتدة أو هي مستلزم من مستلزماتها، ولم يمتدح غسان كنفاني البيوت، أو الطرق، أو الأشجار، أو العواطف والمشاعر والآمال.. إلا لأنها مؤثثة بأنفاس البشر الصادقين. والعين الرائية الى أدب همنغواي وشعر المتنبي تدرك أيضا مدى اهتمامهما بالإنسان ونزوعه الأبدي للوصول الى المشتهى النائي المحلوم. (4) ويا للعجب الذي لا يصدق، في زمن لا يصدق أيضا.. أن نقرأ من الذين يكتبون التاريخ الأدبي يريدون طيّ صفحة غسان كنفاني باعتباره ماضويا، كما يريدون المرور بالمتنبي وهمنغواي مرورا عابرا (وهم بذلك أشبه بالذين يعرفون القرى من اليافطات التي تحمل أسماءها فقط)، لكن الحارس الأكبر، أعني الزمن الذي في طالع صفاته: الديموقراطية.. يرفع بيديه مرآتين، الأولى: تري هؤلاء العابرين قاماتهم وصورهم الحقيقية، فينكفئون على أنفسهم مثل القنافذ.. لضآلتهم. وفي المرآة الثانية: يريهم، أي الزمن، غسان كنفاني بتمام قامته المضاءة لأنه واحد من .الفلسطينيين المتحدرين من سلالة النور حسن حميد |
||||
|
|||||
اقتباس المشاركة |
10-09-2012, 12:12 AM | #24 | ||||
قوة السمعة: 452
|
رد: مكتبة الأديب الفلسطيني الشهيـــد // غســــان كنفاني
..ثلاثون تموز يقولون إن الولد قطعة من الكبد!.. فهل بقيت في أجساد بني وطني أكباد؟.. تحملني أجنحة طيور من يافا.. إلى عكا، وتزفني إلى الفيحاء.. آه يا حبيبتي المغموسة في قدر العشق، أنت في القلب!.. كنت وتبقين حتى نهاية الزمان.. أشم ريح بردى، ريح البحر.. تراب قاسيون، قشرة برتقالية.. حور الغوطة، شجيرات المنشية.. أحن إلى أصغر عصفور يبيت في قلب سروة.. أو يستظل بخيال ورقة تين.. تحملني أجنحة طيور.. تفتح أمام ناظري صوراً واضحة جلية.. الساعة الواحدة، ظهر يوم السبت 8 تموز 1972 خبر مقتضب بثته إذاعة لندن.. (انفجار سيارة يودي بحياة الأديب غسان كنفاني وسط ظروف غامضة..). بعد دقائق كنت في سيارة أجرة، منطلقة تطوي تحت عجلاتها الطريق الى بيروت. أتوسل لأول مرة في حياتي أن تقابلني هناك كذبة!.. أجمل كذبة يمكن أن يستقبلها إنسان، تقول: إن الخبر برمته ليس له أساس من الصحة.. ولأول مرة في حياتي أيضا أجتاز حدودا بين دولتين بلا جواز سفر، ولا تأشيرة، ولا تصريح. فتحوا أمامي البوابات، وحملوني بنظراتهم الطيبة الحزينة، وتصرفاتهم الجادة الصغيرة المخلصة والمرتبكة، أنبل المشاعر طافحة بالأسف والعزاء... أهمس ويهمس إليّ الحرف.. حتى الحرف يطن في أذني، ساحة مقروءة حية.. ألمس تفاصيلها وأجزاءها الصغيرة الصغيرة.. لم تعد هشة تجلدني بطيوف الأشياء المنسية. شاب أشقر، ضئيل، عرفت في عينيه السخرية، والهدوء، والقسوة.. يحمله نعل خفيف عبر حارات دمشق القديمة، بستان الحجر، وباب السريجة، يشتري رغيفا بخمسة قروش من فرن المصري يحشوه عزّو حديد بالفلافل والتوابل والمخللات، ويقسمه بيننا بالتساوي. وجبة سمينة ليوم كامل.. ننطلق عبر السوق المستقيم الطويل الملون برتلين من الدكاكين، الى باب الجابية فشارع البدوي فالشاغور ومنه الى شارع الأمين.. نقف بوجل أمام البناء الأبيض العريض المسور ببوابات حديدية كثيرة وكبيرة.. الأليانس؟.. كنت تلميذا في الصف السادس يوم دخله غسان في الحصة الثالثة لأول مرة، وبعد أن قدمه المدير للطلاب، خرج وتركه <<كما تصورت>> غارقا في حيرة.. فقد لاحظ بلا شك أن قامات مجموع التلاميذ بوقوفهم للتحية أطول من قامته، وأن معظمهم أيضا بمثل سنه أو ما يقارب، وقد لاحظ أيضا كما لاحظت أن بعض التلاميذ أخذوا يغمزون من تلك الزاوية.. تماسك.. وراح يشد على أسنانه بقوة، وعلى قبضة يده.. أمسك قطعة طبشور وأدار ظهره للتلاميذ.. كتب على اللوح بخط كبير وجميل (درس الرسم) وانفتل فجأة على حركة غير عادية أعطته الفرصة للدخول الى الأمر المهم الذي تصورت أنه يناضل للوصول إليه. شد ظهر الكرسي بقبضة يده الواحدة، وألقى بقطعة الطبشور بعيدا.. وقال: أعرف أنكم لم تتوقعوا أن يحدث ويصبح مثلي أستاذا عليكم.. هذا أمر لن أتحدث بتفاصيله الآن على الأقل، المهم أنني هنا معكم وبينكم في صف واحد.. قد نكون متقاربين في السن والقامة، والفرق المهم هنا <<وأشار الى رأسه>> كما أنني أملك السلطة، وأستطيع أن أمارسها ببساطة وكما يتطلب الأمر على شكليها.. وأنتم تقررون ذلك. نظر طويلاً في وجوه الجميع، وكنت طيلة الوقت أجاهد كي لا تلتقي نظراتنا، أتلهى بالنظر في وجوه رفقائي.. لكن أحدا منهم لم يعلق بكلمة أو بحركة. عاد ثانية الى اللوح، كتب من جديد.. معرض فلسطين للرسم والأشغال. بعد شهر كامل من العمل المتواصل افتتحنا في الصالة الرئيسية للمدرسة أول معرض من نوعه اشتمل على مجموعة من الرسوم وبعض المنحوتات البسيطة، والكثير من النماذج الفلسطينية التي طلب غسان من الطلاب جلبها من بيوتهم. ملابس أو أوان أو صور.. إلخ، تنتمي الى الفولكلور والتراث الفلسطيني، وكان يكتب بخطه الجميل تعليقات مميزة على كل قطعة. مثل المعرض بصورته وإنجازاته المتواضعة مثلاً غير مسبوق لأول معرض حقيقي يحمل الطابع الفلسطيني دون سواه، علامة جلية واضحة تحرض ولا تمسح من الذاكرة صورة مستمرة للوطن. كان غسان يعمل لساعات طويلة يوميا وحتى ساعة متأخرة من الليل، يرسم ويلون ويكتب ويخطط ويصحح رسوم الطلاب ويخلق مع الجميع ساحة حميمة من الألفة والمحبة جعلته خلال وقت قصير الشخصية المحببة والصديق المفضل، والمميز أيضاً لدى الجميع. تقابلني نظرات السائق الخاطفة، يطفو صوته الدقيق فوق صوت اللحن الرديء الذي يطلقه المذياع.. أقل من ساعة ونصل.. تأخذنا المنعطفات الضيقة المتلاحقة، تنساب الطريق الى بيروت على حافة حادة بين جبل درزته الخضرة حتى القمة، وواد سحيق مفروشة عتباته بألوان زاهية.. خضراء وبنية.. صفراء وحمراء.. تتخللها قطعان تتحرك بكسل.. وبيوت متناثرة بينها، تلفظ سحابات دخان باهتة تحمل روائح فياضة. مع بداية العام الدراسي التالي انتقل غسان للتدريس في إعدادية صفد، في باب الجابية.. وكان عليه أن يتعامل مع مجموعة أخرى من الطلاب أكبر سنا.. ومع مجموعة مميزة مخلصة متفانية من الأساتذة الذين كتبت عليهم أقدارهم أن يكونوا المؤسسين الأوائل لحالة استمرار التاريخ والحقيقة الفلسطينية المتواصلة للفلسطينيين في فكر الجيل الذي تنبأت له أدمغة الأعداء أن يكون الجيل المهيأ للنسيان. ولا شك أن غسان أدرك منذ البداية هذه الحقيقة وأدرك الضرورة القصوى لإبقاء حالة من الغليان لا بد من أن تخلق في ظرف زمان ومكان، متغيرات على شكل ما. دخل بثقة هذه المرة قاعة الصف السابع، توجه الى اللوح وكتب بخط واضح ارسم منظرا مرعبا.. اجتاحت الطلاب مشاعر متفاوتة.. أحدهم رسم بحرا متلاطم الأمواج، وآخر رسم دبابة أو طائرة وثالث رسم وجه وحش بأنياب طويلة حادة.. وهكذا توالت الرسوم على الطاولة أمام غسان الذي كان يتابع كل رسم بانتباه، ثم يشطب عليه، ويضيف على ذيله عبارة مقتضبة.. <<مخيف.. وليس مرعباً>>. وحين انتهى الجميع من تقديم أعمالهم، توجه غسان الى اللوح.. رسم دفترا مفتوحا، لونه بالأحمر، وكتب تحته بخط عريض.. دفتر الإعاشة!.. في اللحظة نفسها دخل مدرّس اللغة العربية الأستاذ محمود فلاحة قاعة الصف ليراقب عن كثب ولكثرة ما سمع ذلك الشاب الضئيل الهادئ، النموذج الديناميكي للفلسطيني الحديث الذي استطاع بزمن قياسي ومن خلال تدريس الفنون <<الرسم والأشغال>> المادة الهامشية البعيدة عن اهتمام الفقراء اللاجئين الدائرين حول محيط حلقة فيها ألف هم وألف مشكلة وألف سؤال.. وكيف استطاع أن ينحي شعور الاستسلام السائد، وأن يخلق صورة مختلفة عن الفلسطيني المهزوم والمقهور تنقله وتضعه في مقدمة استحقاقات أخرى أهمها القدرة على الفداء وتجاوز الحالة ورسم صورة جديدة للفلسطيني الفدائي، لم تكن واضحة المعالم بعد.. وقد أسس الحدث الذي شاهده وأدرك أبعاده الأستاذ فلاحة الى نشوء صداقة متينة بينهما أدت في حينه الى إقامة تعارف بين غسان والدكتور جورج حبش ليسيرا معا انطلاقا من حركة القوميين العرب وما بعدها.. تزداد حركة السيارات كلما اقتربنا من بيروت... فجأة يصافحنا البحر.. لأول مرة يسكت المذياع.. التفت السائق، قال بصوت خفيض وهو ينعطف الى اليمين: <<الحازمية>>. ترتجف أطرافي المتحفزة، أتلهف أتوسل لاستقبال مفاجأة الكذبة.. تتوقف السيارة.. يمسك السائق يدي.. يفرد أمام خطواتي المضطربة حزنه المسفوح على حصيرة من شفقة.. يقودني عبر الحطام والدمار. يصل بي الى حافة واد عميق الغور، فيه رجال يلتقطون عن الأغصان قطع لحم صغيرة، يجمعونها في كيس أبيض. في الزاوية الأخرى رأيت وجه غسان ونصف صدره.. ورأيت شيئا متفحما يشبه الصبية الجميلة <<لميس>>.. وكأنه تحسس بأصابعه النحيلة أثر الجرح الطافي على صفحة خدي الأيمن. كان يبتسم، صافحني وهو يبتسم. فبكيت.. في 31/5/1959 اكتشفنا بحزن واكتشف بسخرية مرضه بالسكري.. وهكذا سقطت أمامه الشوارع.. وراحت تزحف مستقيمة الى نهاياتها المجهولة.. لم يعد يذكر الصحراء.. غزاها وانتهى.. كان عليه أن يبدأ سباقا آخر.. لم يجد في العالم الذي مخر عبابه على مدى ست وثلاثين سنة متسعا لرعشات ريشته.. كان الورق أضيق من غزارة قلمه.. والعمر قصيرا.. والسياط تملأ الأمكنة كلها.. لم يدرك أبدا أن الموت وهو يسخر من حقن الأنسولين اليومية، ومن الحمية المنهكة، ومن الخوف المعشش في اللحظات سيأتيه من ها هنا، ليكمل بفعله المأساوي حلقة أخرى متصلة مع حلقات ما زالت تسطر سفر ملحمة، تكرسه أثرا ومعلما. .رحم الله غسان كنفاني الشهيد الشاهد عدنان كنفاني |
||||
|
|||||
اقتباس المشاركة |
10-09-2012, 12:14 AM | #25 | ||||
قوة السمعة: 452
|
رد: مكتبة الأديب الفلسطيني الشهيـــد // غســــان كنفاني
ماذا كتبت مجلــة الآداب عن غســـان كنفاني
قصة غسان كنفاني كما ترويها زوجته الدنماركية آني في الذكرى الأولى لرحيل غسان صباح الاغتيال، جلسنا جميعنا أطول من العادة، نشرب قهوتنا التركية على الشرفة. وكان لدى غسان كما هو دأبه الكثير من الأمور للتحدث عنها، وكنّا كما هو دأبنا دوماً حاضرين للاستماع. وكان يخبرنا ذلك الصباح عن رفاقه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم بدأ يتحدث هو وأخته فايزة عن طفولتهما في فلسطين. قبل أن يغادر متوجها الى مكتبه، أصلح القطار الكهربائي لابننا فايز ولابنة أخت غسان وأخيها. كان الثلاثة يلعبون داخل المنزل ذلك الصباح. وكان على لميس، ابنة أخت غسان، ان ترافق خالها الى وسط البلد للمرة الأولى منذ وصولها من الكويت بصحبة أمها وإخوتها لأسبوع خلا، فقد كانت تعد العدة لزيارة أقربائها في بيروت. لكنها لم تفلح في الوصول الى هناك أبداً. فما هي إلا دقيقتان على تقبيل غسان ولميس إيانا قبلة <<الى اللقاء>> حتى دوى انفجار مريع. تطايرت نوافذ البيت جميعها. انحدرت بسرعة، لأجد اشلاء سيارتنا الصغيرة تحترق. وجدنا <<لميس>> على بعد بضعة امتار، ولم نجد غسان. ناديته باسمه، ثم اكتشفت ساقه اليسرى. وقفت مشلولة، فيما راح فايز يضرب برأسه الحائط، ورددت ابنتنا ليلى النداء تلو النداء: <<بابا، بابا..>>. وبالرغم من ذلك فقد ساورني أمل ضئيل بأنه قد اصيب اصابة خطرة ليس إلا. لكنهم عثروا عليه في الوادي، قريباً من منزلنا، ونقلوه بعيداً عنّا، وفقدت الأمل بأن أراه مرة اخرى. قعد اسامة قرب جسد أخته الميتة، وقال لها: <<لا تجزعي، يا لميس، ستكونين بخير، وستعلّمينني الانكليزية من جديد..>>. وفي المساء قالت لي صغيرتنا ليلى: ماما، سألت البابا أن يأخذني معه في السيارة لنشتري شوكولاته، لكنه كان مشغولاً، فأعطاني لوحاً كان يحتفظ به في جيبه. ثم قبلني وطلب مني الرجوع الى المنزل. جلست على درج بيتنا لآكل الشوكولاته، وحصل دوي كبير. لكن، يا ماما، لم تكن تلك غلطة البابا، إن الاسرائيليين هم الذين وضعوا القنبلة في سيارته>>. أنا ارملة غسان كنفاني واحد من شهداء الثورة الفلسطينية العظام. وطني الأصلي هو الدنمارك. استطيع ان اذكر بغموض الاحتلال الالماني الذي بدأ في 9 نيسان 1940. فقد انخرط أبي في حركة المقاومة، اسوة بغيره من الرجال والنساء الدنماركيين. وقدّم كثير من المقاتلين الأحرار حياتهم آنذاك، وآل بعضهم الى سجون <<الغستابو>> ومعسكرات التصفية اثناء نضالهم ضد الاحتلال الألماني. وكان الالمان يلقبون المقاتلين الدنماركيين الأحرار ب<<الإرهابيين>>، وهو الافتراء عينه الذي ترمي به القوى المحتلة قاطبة الشعوب المقهورة التي تقاوم الاحتلال وتشرع في النضال من أجل حريتها واستقلالها. بل إن حركة المقاومة الدنماركية كانت قد ساعدت على إنقاذ اليهود أنفسهم من النازيين الألمان. حين تأسست اسرائيل في 15 ايار 1948، كان الدنماركيون شأنهم في ذلك شأن معظم الشعوب الاخرى في العالم <<المتحضر>> يتحلون بفضيلة الجهل. لقد سمعنا شيئا عن <<اللاجئين العرب>>، غير ان أياً منّا لم يدرك آنذاك ان شعبا بأكمله قد دفع الثمن. وكان عليّ ان انتظر اثنتي عشرة سنة قبل ان أعي وجود شعب فلسطيني طرد من وطنه الأصلي بمعونة القوى العظمى وبشكل أساسي: بمعونة الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا. في عام 1960 شاركت في مؤتمر عالمي للأساتذة، وشاركت لاحقاً في مؤتمر للطلاب في يوغوسلافيا. وكانت تلك المرة الاولى التي واجهت فيها المشكلة الفلسطينية من خلال لقاءاتي ببعض الطلاب الفلسطينيين. وعند عودتي الى الوطن التحقت ب<<جامعة الشعب العالمية في الدنمارك>> حيث واصلت نقاش تلك المشكلة مع زملائي الطلاب. وسافر بعضنا الى لندن وشارك في مسيرة الدرماستون التي نظمها أنصار نزع الأسلحة النووية بقيادة برتراند راسل. وحين توفي برتراند راسل عن سبعة وتسعين عاماً كان ما يزال يقاتل من أجل العدالة وهذه المرة من أجل الفلسطينيين. في صيف الدرماستون ذاك، عدت الى يوغوسلافيا بصحبة فرقة فولكلورية دنماركية شهيرة، هي <<تينكلوتي>>، وهي فرقة قد كنت عضواً فيها لسنين عشر. وقد التحق بعضنا بمخيم عمل عالمي حيث التقينا بطلبة اسرائيليين، ثم التقينا في مخيم آخر بطلبة عرب، وتحدثنا عن المشكلة الفلسطينية مع الفريقين كليهما. في ايلول 1961 ذهبت الى سوريا ولبنان لكي ادرس المشكلة الفلسطينية عن كثب. وفي بيروت، عرفوني الى غسان كنفاني، وكان آنذاك واحداً من محرري المجلة الأسبوعية العربية <<الحرية>>. وكانت المجلة ناطقة باسم <<حركة القوميين العرب>>، وكان غسان محرراً للشؤون الفلسطينية فيها. حين سألت <<غسان>> ان يأذن لي بزيارة بعض مخيمات اللاجئين، تملكه الصمت. وبعد هنيهة صرخ غاضباً <<او تحسبين أن شعبنا الفلسطيني حيوانات في جنينة حيوانات؟!>>. ثم شرع بالتفسير، فتحدث عن شعبه وعن وطنه، تحدث كيف أن الأمم المتحدة نقضت ميثاقها في 29 تشرين الثاني عام 1947 (1) حين قسمت فلسطين خلافاً لإرادة سكانها العرب (الذين كانوا يشكلون آنذاك ثلثي حجم السكان، وكانوا يملكون أكثر من تسعين بالمئة من الأراضي)، وتحدث كيف أن دولة آسيوية واحدة (في الفيليبين) ودولتين افريقيتين اثنتين (هما ليبيريا وجنوب افريقيا) صوتت لصالح قرار التقسيم، وان الدولتين الأوليين قد مارست الولايات المتحدة عليهما ضغطاً شديداً لحملهما على مثل ذلك التصويت. وعلى هذا النحو، تم زرع دولة اسرائيل الصهيونية الكولونيالية بالقوة في تخوم العالم الثالث الناهض، من غير ان تتلقى اعترافاً طوعياً من اي دولة عربية او آسيوية او افريقية، باستثناء جنوب افريقيا العنصرية. وتابع غسان يحدثني عن فلسطينه الحبيبة، وعن اضطراره الى مغادرتها عام 1948 بصحبة أهله وأشقائه وشقيقاته الخمسة. ولد في عكا في 9 نيسان 1936، في بداية الثورة الفلسطينية العربية ضد القوات الصهيونية وسلطة الانتداب البريطاني. وأثناء الثورة، قام الفلسطينيون العرب بإضراب عام لعله يكون الاطول في التاريخ استمر ستة شهور. وحين اخمدت الثورة عام 1939، كان 5032 عربياً قد قتلوا و14760 قد جرحوا، وشنق مئة وعشرة اشخاص على يد السلطات البريطانية. أخبرني غسان عن الإرهاب الاسرائيلي وكيف أجبر شعبه على هجرة ارضه. وكانت مدينته عكا قد خصصت للسكان العرب، حسب خطة التقسيم التي أرستها الأمم المتحدة. غير ان عكا، أسوة بالكثير من المدن والقرى الفلسطينية، خضعت لاحتلال القوات الصهيونية، وهجر سكانها بالقوة الجسدية والنفسية. وأصيب عرب فلسطين آنذاك بالذعر الشديد بعد مجزرة دير ياسين، القرية المسالمة العزلاء. ويروي جاك دو رينير، ممثل الصليب الأحمر الدولي، في تقرير شاهد عيان ان 254 امرأة وطفلاً وشيخاً قد ذبحوا بوحشية وعن سابق عمد، وقذفت المجموعتان الصهيونيتان الإرهابيتان الايرغون وشتيرن بجثث الكثير منهم الى احدى الآبار. ولقد وصفت السلطات الصهيونية الرسمية تلك المجزرة ب<<الحادث>>. أما الايرغون بزعامة مناحيم بيغن الذي شارك في عدة حكومات اسرائيلية لاحقة وترأس إحداها فقد دعت الى مؤتمر صحافي اعلنت فيه تفاصيل الحدث، في الوقت الذي كان فيه قرويو دير ياسين الأسرى الذين بقوا على قيدة الحياة يستعرضون عراة امام سكان الأحياء اليهودية في القدس لكي يبصقوا عليهم. وقد أفرج عن الأسرى في فترة لاحقة، فغادوا الى بيوتهم ليتحدثوا عن مصائرهم، فيما راحت السيارات المجهزة بمكبرات الصوت تجول في القرى العربية معلنة انه <<إن لم تغادروا بيوتكم، فسوف يكون مصيركم كمصير دير ياسين>>. وكتب مناحيم بيغن: <<إن المجزرة لم تكن مبررة فحسب، بل إن دولة اسرائيل ما كانت لتكون على قيد الحياة لولا الانتصار في دير ياسين>>.(2) إن تكن هجرة الفلسطينيين خطة مدبرة فهذا أمر اكده العميد غلوب، إذ يروي حواراً دار بين ضابط بريطاني في <<الفيلق العربي الاردني>> ومسؤول يهودي في <<حكومة فلسطين>> في كانون الاول. فقد سأل الضابط البريطاني عما إذا كانت الدولة اليهودية الجديدة ستواجه متاعب داخلية كثيرة نظرا لتساوي عدد السكان العرب فيها بعدد السكان اليهود، فأجاب المسؤول اليهودي: <<آه، لا! سوف ندبر هذا الأمر. إن بضع مجازر محسوبة بدقة سوف تخلصنا منهم>>. (3) إن اسم <<ليديس>> الفلسطينيين ليس <<ماي لاي>>، بل دير ياسين. وقد وقعت المجرزة في 9 نيسان 1948 وصادف ذلك عيد ميلاد غسان الثاني عشر. ومذاك، لم يحتفل غسان بعيده قط. وفي مثل هذا اليوم من كل سنة، أقف أنا ارملة غسان بخشوع امام أرواح غسان والضحايا الأبرياء الذين سقطوا في مجزرة دير ياسين قبل خمسة وعشرين عاماً. وفي ذلك اليوم بالذات من عام 1940، تم احتلال وطني (الدنمارك) على يد النازيين الألمان. غادرت عائلة غسان عكا قبيل 15 أيار 1948، وكان حوالى ثمانمئة ألف عربي قد فروا من الإرهاب الصهيوني آنذاك. واستمر العرب في الهجرة، يتقدمهم الاطفال والنساء، فقد بقي الرجال ليدافعوا عن القرى والمدن. وما لبثت يافا وحيفا واللد وغيرها ان <<نظفت>> (والتعبير هو لإيغال ألون) من سكانها العرب. عندما طردت عائلة غسان من فلسطين، كانت صفر اليدين. وقد اختار الأب ان يبقى في قرية لبنانية صغيرة هي الغازية قريبة من الحدود. فالحال انه أراد ان يكون بين أوائل العائدين الى منازلهم بعد انتهاء القتال، على نحو ما نص قرار الأمم المتحدة بصدد اللاجئين الفلسطينيين (وهو القرار رقم 194، الفقرة الثالثة، الصادر في 11 كانون الأول 1948). ونحن نعلم جميعنا ان مثل هذا القرار لم ينفذ، فقد منعت السلطات الاسرائيلية الفلسطينيين العرب من العودة. لقد أراد الصهاينة الوطن، لا شعبه، وكانت مثل هذا الرغبة كامنة منذ بداية إنشائهم الكيان الصهيوني. وانتقل ابو غسان مع جميع أفراد عائلته الى قرية جبلية في سوريا تدعى الزبداني. وكانت الحياة هناك قاسية، وكان الجوع والبرد وجبتهم اليومية. وانتقلوا لاحقا الى دمشق، وشرع غسان وأخوه الأكبر بتجميع الكتب أملا بكسب القليل من المال الذي يعينهما على عول عائلتهما المؤلفة من ثمانية اشخاص بالاضافة الى ثمانية اشخاص آخرين يعيشون معهم. وما لبثا ان تابعا دراستهما في مدرسة مسائية بعد أن كانا قد عملا طوال النهار. كان غسان آنذاك في الثالثة عشرة من عمره، وكانت أخته فايزة (أم لميس) قد حصلت على الشهادة الثانوية، وذهبت عام 1952 الى الكويت حيث صارت واحدة من أوليات المعلمات، وواحدة من الفلسطينيين الكثر الذين أسهموا في نمو الدول العربية بصفتهم اساتذة ومهندسين وأطباء وغير ذلك. وبعد أن نال غسان شهادة البريفيه في السادسة عشرة من عمره، شرع بالتدريس في مدارس الأونروا. وكان، مع استاذ آخر، مسؤولين عن تعليم ألف ومئتي طفل فلسطيني لاجئ، غير ان هدف غسان الأعظم كان توعية اولئك الاطفال توعية سياسية. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن، صار سبعون في المئة من تلاميذ غسان في مدارس الأونروا مقاتلين. قبل ان يلتحق غسان بمدرسة الأونروا، عمل في مطبعة في دمشق. وفي سنة 1955 طلبت منه <<حركة القوميين العرب>> ان يعمل في تحرير جريدتها الرأي وفي طباعتها. وانتسب الى <<الحركة>> في ذلك العام. وفي العام التالي، لحق بأخته فايزة وأخيه غازي في الكويت. وأرسل ثلاثتهم اكثر رواتبهم الى عائلتهم في دمشق. وهكذا توافر للوالد دخل شهري يعول به بقية أفراد العائلة، وحصل في تلك الفترة كذلك على إذن بالعمل في سلك المحاماة في دمشق، وكان اكثر زبائنه من الفلسطينيين المدقعين. وواصل غسان، خلال السنوات الست اللاحقة التي قضاها في الكويت، نشاطه السياسي. وكان يدرّس الفن والرياضة، ولقد اثبتت تلك السنون انها جزء هام جداً في حياته. فقد قضى معظم اوقات فراغه في الرسم والكتابة والقراءة، وانصبت اكثر قراءاته على السياسة: فقرأ ماركس، وانجلز، ولينين، وغيرهم. وفي عام 1960، اقنع الدكتور جورج حبش <<غسان>> بمغادرة الكويت والمجيء الى بيروت للعمل في الحرية. منذ الأيام الاولى للقائي بغسان، أحسست بأنني إزاء إنسان غير عادي. وتطورت علاقتنا من خلال القضية الفلسطينية الى علاقة شخصية. ورغم وضعه الذي لا يبعث على الأمان فغسان الفلسطيني لم يكن يملك جواز سفر، ولا مالاً، وكان يعاني فوق ذلك من مرض لا شفاء منه هو السكري ، فإننا ما لبثنا ان اكتشفنا ان الموت وحده سوف يكون قادراً على تفريق الواحد منّا عن الآخر. وشرعت بالتدريس في روضة للأطفال. وما هو إلا شهر على وصولي الى لبنان حتى تزوجنا ولم يندم اي منّا على ذلك وكان لنا كمعظم الفلسطينيين الآخرين، مصاعبنا، الاقتصادية وغير الاقتصادية. وفي كانون الاول عام 1962 اضحى الوضع السياسي شديد الاهتزاز، فكان على غسان ان يبقى مختبئا في المنزل لفترة تزيد عن الشهر، وذلك لافتقاره الى الأوراق الرسمية. وأثناء هذه الفترة، كتب رواية رجال في الشمس التي طار صيتها في معظم أرجاء العالم العربي، وأهداها إليّ. ولقد ترجم غسان لي كل رواياته وقصصه اثناء كتابته إياها، وصرت على معرفة كذلك بكتاباته السياسية. وكان دافعه الى الكتابة لا يحد كأن في غسان نبعاً من الكلمات والأفكار يعب منه الصفحة تلو الصفحة عن فلسطين، وطنه، وعن شعبه. وكان دائم الانشغال، كما لو ان الموت يتربص به عند زاوية الشارع. وكان غسان رساماً ومصمماً للرسوم، وكانت احدى لوحاته اثناء تلك الفترة تمثل رجلاً مصلوباً بالزمن... لقد كنت شديدة التأثر بأفكار غسان، غير انه لم يفرضها أبداً عليّ. وهذا ما ينطبق على اصدقائنا الاجانب الذين اكتشفوا القضية الفلسطينية من خلاله. واهتم الكثير منهم، لاحقاً، بهذه القضية في بلدانهم ذاتها. أما علاقتي بعائلة غسان فقد كانت حميمة، فلقد رحبت بي عائلته منذ البداية بكل ما امتلكت من ضيافة ودفء، وصرت احب أفرادها حباً عظيماً. استندت حياتنا الزوجية الى الثقة، والاحترام، والحب، ولهذا، فقد كانت على الدوام مهمة، جميلة، قوية. وولد اول صبي لنا في 24 آب 1962 وأسميناه <<فايز>> ومعناه المنتصر تيمنا باسم جده. وصار غسان أكثر انشغالاً من ذي قبل، وانغمس في عمله انغماساً كلياً. وكان آنذاك قد ترسخ في حقلي الكتابة والصحافة. وفي عام 1963 عُرض عليه منصب رئيس تحرير المحرر، وهي جريدة يومية مثلت وجهات نظر القوى الناصرية والتقدمية. وما لبثت هذه الجريدة ان اصبحت ثاني أكبر جريدة يومية في لبنان، واتسع انتشارها في بلدان عربية اخرى. وعمل غسان فيها سنوات خمساً، وعمل في مجلة فلسطين الاسبوعية التي مثلت وجهة نظر الجناح الفلسطيني في <<حركة القوميين العرب>> وعالجت المسائل الفلسطينية. خلال عامي 1963 1964، كانت <<حركة القوميين العرب>> في طريق تحولها الى الاشتراكية العلمية، وقررت عام 1964 ان تعد العدة لبدء الكفاح المسلح في فلسطين. وما هي إلا فترة وجيزة حتى تأسست الفرقة المقاتلة الاولى، ولم يكن هدفها اول الامر القيام بعمليات عسكرية، وإنما الاتصال بالعرب المقيمين في <<اسرائيل>> وإنشاء قاعدة للكفاح المسلح القادم. وما لبثت <<حركة القوميين العرب>> ان قدمت شهداءها الاول في النضال من اجل تحرير فلسطين. ولقد اهدى غسان لاحقاً روايته ما تبقى لكم التي حازت عام 1966 <<جائزة اصدقاء الكتاب في لبنان>> لواحد من اولئك الشهداء، هو خالد الحاج، وكتب غسان في الاهداء: <<الى خالد.. العائد الاول الذي ما يزال يسير>>. عام 1965 دُعي غسان رسميا لزيارة الصين والهند. وهناك التقى بوزير الخارجية الصيني <<شينغ لي>> وبرئيس الوزراء الهندي شاستري، وبغيرهما من الزعماء السياسيين في كلا البلدين، وناقش المسألة الفلسطينية معهم. ولا شك في ان زيارته تلك قد اثرت فيه تأثيراً عظيماً. وبعد زيارة غسان الثانية الى الصين، حيث شارك في مؤتمر كتّاب آسيا وافريقيا، كسب فايز ابن الأعوام الاربعة طفلة جميلة، اسميناها <<ليلى>>، تيمنا ببطلة احدى اشهر الروايات الشعبية العربية، و<<ليلى>>، اضافة الى ذلك، اسم اسكاندينافي معروف في اوساط اللابيّين في المنطقة القطبية الشمالية. أحب غسان طفليه حتى العبادة، وغالبا ما كتب عنهما. وعلى قصر الزمن الذي قضاه معنا، فقد كان يلعب معهما مراراً ويعلمهما اشياء كثيرة. ولقلما فقد اعصابه، ولم يضربهما قط. واتسع سروره برفقتهما ليشمل اصدقاءهما، وغالباً ما قادهم جميعا في سيارته الى السينما او شاركهم ألعابهم في منزلنا. قبل حرب حزيران 1967 بأسبوع واحد، توفيت أم غسان فجأة في دمشق بعد اصابتها بذبحة قلبية. لكنه لم يذرف دمعة واحدة طوال مأتمها، على صدق حبه العميق لها، بل انه حاول ان يبث العزيمة في أبيه وفي افراد العائلة الآخرين. غير اننا اثناء رجوعنا الى بيروت، انهار غسان، ولأول مرة في حياتي، شاهدت دموعاً في عينيه. وعندما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر استقالته عقب حرب حزيران، وبعد ان فقد الكثيرون الأمل، رفض غسان ان يخضع للاستسلام. لقد كان في اللحظات الدقيقة قوياً بشكل لا يصدق، وكان يحاول ان يعطي شيئا من هذه القوة للآخرين. وكان يعبّر لاحقاً عن مشاعره بالكتابات السياسية والأدبية. لم يساورني ادنى شك في اي لحظة من اللحظات في ان غسان قد اختار الطريق السليم. ولو انني حاولت ان امنعه من مواصلة نضاله والتزامه السياسيين، لبقي لي زوجي، غير انه ما كان سيكون ذلك الإنسان المرهف الشريف الذي أحببته وأُعجبت به. حاولت ما في وسعي ان اشارك غسان في نضاله، قمت باتصالات مع اشخاص يعيشون في الغرب ويهتمون بمعرفة حقيقة النضال الفلسطيني. وطلبت مني مجلة دنماركية يسارية ان اكتب مقالة تشرح خلفية فلسطين، وكانت تلك المقالة واحدة من مقالات كثيرة غيرها كتبتها لاحقاً. ومنذ حرب حزيران كتبت المئات من الرسائل الى اصدقاء قدامى وجدد في اسكاندينافيا وغيرها من البلدان. وكانت احدى مراسلاتنا مع الكاتب اليهودي الشهير المعادي للصهيونية موشي مانوحين الذي يسكن في الولايات المتحدة ومؤلف انحطاط اليهودية في زمننا. وقد اعتبرناه صديقا من أصدقائنا الشخصيين. في خريف 1967، التحق غسان بهيئة تحرير جريدة الأنوار وكانت آنذاك جريدة طليعية ناصرية الاتجاه وأصبح رئيس تحرير ملحقها الأسبوعي. وكان قد بدأ كذلك بالقيام بدور قيادي في النشاطات الاعلامية الفلسطينية وتلك التي تقوم بها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وغدا من المعلوم ان كل جريدة او مجلة يساهم غسان في كتابة مقالاتها وافتتاحياتها يلحقها ارتفاع في مستواها وفي نسبة توزيعها. وراحت السفارة الفرنسية وغيرها من السفارات في بيروت تترجم مقالاته الأسبوعية في الأنوار، لما تتضمن من تحليل سياسي دقيق. غير ان غسان قرر عام 1969 ان يترك وظيفته الآمنة في الأنوار لكي يبدأ المجلة السياسية الأسبوعية <<الهدف>>، مع ان مثل هذا القرار عنى انخفاضا في الدخل. لكن <<غسان>> لم يعمل لاعتبارات مادية، فقد كان الإلهام الذي يدفعه للكتابة والعمل المتواصلين هو النضال الفلسطيني/ العربي وتحرير فلسطين. وفي تموز 1969 صدرت الأعداد الأولى من الهدف برئاسة تحرير غسان. وكان على يقين ان المجلة سوف تنقل رسالة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والقوى التقدمية الاخرى الى الجماهير العربية والرأي العام العالمي. وكان على حق. فلقد تحولت الهدف في السنتين اللاحقتين الى واحدة من افضل المجلات السياسية الأسبوعية في العالم العربي قاطبة، واقتبس الكثير من كلماتها، وترجم عدد كبير من مقالاتها وافتتاحياتها الى لغات اخرى. ولقد شارك غسان بصفته منظراً سياسياً في وضع البرامج والبيانات السياسية الصادرة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكان يقوم بأكثر عمله في المنزل لكي يكون على مقربة منّا. وصمّم الكثير من ملصقات <<الجبهة الشعبية>>، وكتب الكثير من المقالات في المنزل، حيث كان <<فايز>> و<<ليلى>> عاملين متطوعين سعيدين برؤية أبيهما يرسم ويلون. واستمر غسان في الكتابة بدون انقطاع، مقدما ل<<الهدف>> الكثير من إسهاماته. وحين اصبح الناطق الرسمي باسم <<الجبهة الشعبية>>، تناقص الوقت الذي كان يكرّسه لي وللاطفال، وهكذا فقد كان الوقت الذي نقضيه معاً ثميناً جداً. ولم تكن لديّ الرغبة في ايقافه عن العمل السياسي. فالحال ان رفاقه كانوا يقدمون حياتهم، يومياً، في النضال، او كانوا يؤولون الى التعذيب في السجون الاسرائيلية. وكان واجبه ان يحكي للعالم عن الثورة الفلسطينية. وحسب كلمات جريدة الدايلي ستار في عددها الصادر في 9 تموز 1972، فإن غسان: كان المقاتل الذي لم يطلق رصاصة واحدة. كان سلاحه قلماً، وميدانه صفحات الجرائد. لكنه آذى عدوه اكثر من رتل من المقاتلين. واثناء اختطاف <<الجبهة الشعبية>> لأربع طائرات غربية، لم نر غسان طوال اكثر من اسبوع. وكانت تلك اكثر فتراته انشغالاً في حياته الفاعلة على صعيد الاعلام. وكان قد عاد من عمان على متن الرحلة الاخيرة الى بيروت، عشية الأهوال الرهيبة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني وحركة المقاومة في الاردن. لئن عجز المئات من المراسلين الاجانب الذين ملأوا مكتب الهدف وقد غدا اسطوريا آنذاك عن اجبار غسان على القيام بحوار معهم، فذلك لأن اجاباته قد كانت على الدورام ثاقبة حادة دقيقة. ولعل السبب الرئيسي لذلك يكمن في ان القضية التي كان يدافع عنها قضية النضال الثوري الفلسطيني قضية عادلة. لقد زارنا الكثير من الصحافيين وغير الصحافيين من اجل محاولة فهم صادق لازمة الشرق الأوسط، وقد عاد كثير منهم إلينا، وبعضهم صاروا من اصدقائنا الشخصيين. لقد كان غسان واحداً من اولئك الذين قاتلوا بإخلاص في سبيل تحويل حركة المقاومة من حركة تحرر وطني فلسطيني الى حركة قومية عربية ثورية اشتراكية يشكل تحرير فلسطين مكوناً أساسياً فيها. وشدد دائما على ان المشكلة الفلسطينية لن تحل بمعزل عن وضع العالم العربي الاجتماعي والسياسي العام. وعلى الرغم من احتجاجات نقابات الكتّاب والصحافيين، فقد سجن غسان في تشرين الثاني عام 1971 بسبب مقالة في الهدف تتحدث عن نظام رجعي في بلد عربي معيّن. وسجلت الصحافة اللبنانية احتجاجها على سجن غسان من خلال المقالات والافتتاحيات. وبسبب مرضه، فقد امضى وقته في مستشفى السجن، وتسنى له مطالعة بعض مسرحيات ستريندبرغ فضلاً عن رواية طويلة للكاتب الايسلندي الحائز جائزة نوبل هالدور لاكسنس. لكن لم يتح لغسان بشكل عام ان يرتاح. فقد كان عليه ان يعمل، فكتب جزءاً من روايته الطويلة غير المكتملة التي تحكي عن فلسطين. هذه الرواية <<العاشق>> التي كان يريد ان يكتب فيها عن تاريخ النضال الفلسطيني منذ بداياته ضد السلطات البريطانية والقوات الصهيونية حتى النضال الثوري الراهن من اجل تحرير فلسطين قد كانت في باله سنوات متعددة. ولقد اجرى مقابلات مع فلسطينيين من جميع انحاء فلسطين، في المخيمات وفي غير المخيمات، وقابل المقاتلين الذين شاركوا في الثورة الفلسطينية بين عامي 1936 و1939 والذين لا يزالون يقاتلون. وكان ينوي ان ينتهي من كتابة العاشق خلال صيف 1972. وقد نشر جزء منها. وحسب القراء، فإنها عمل قوي ومؤثر. وكان الى جانب الكتابة، يرسم كثيراً، ويرسم الجياد اكثر ما يرسم. ولعب الحصان دوراً هاماً في بعض قصصه ورواياته. كان يقول إن الحصان بالنسبة لنا نحن العرب يرمز الى الجمال والشجاعة والأمانة والذكاء والصدق والحرية. وبالنسبة لي، فقد حاز غسان كل تلك المزايا. أما جياده التي رسم اكثر من عشرين منها في الاعوام الاخيرة التي سبقت رحيله فهي معلقة الآن على جدران بيوت عائلتنا وأصدقائنا في اسكندينافيا والبلدان العربية، وعلى جدران بيوت الحراس والأطباء والممرضات الذين تعرّف عليهم في مستشفى السجن. لقد سار انتاج غسان الأدبي جنبا الى جنب مع نشاطاته الصحافية والسياسية. وكان قبل موته بزمن طويل يعتبر من بين افضل الكتّاب العرب والفلسطينيين. وكان في العادة يبني القصة او الرواية او المسرحية في ذهنه، ثم يكتبها كلها في زمن قصير، مضيفا إليها تصحيحات قليلة في ما بعد. وكانت جميع مخطوطاته مكتوبة باليد، ولم يصوّر قط أياً منها. في لبنان والعالم العربي بشكل عام، يمنع المرء من مساءلة الدين والمذهبية، لكن غسان في مسرحية الباب قام بمثل تلك المساءلة من خلال مغزى عربي ما ورائي يعنى بالدين والوجودية. وبالمناسبة، فإنه على الرغم من كونه مسلماً ومن كوني مسيحية، فإن هذا الاختلاف في مذهبينا لم يشكل عائقا في علاقتنا، لكوننا قد تبنينا وجهة نظر واحدة في الدين. وفي عام 1964 ترجمت الباب الى الفرنسية ونشرت في المجلة الأدبية L'Orient الصادرة في باريس. تجلى حب غسان للاطفال في مجموعته القصصية عالمٌ ليس لنا (1965). وقد أهداها ل<<فايز وليلى>>. وفي العام ذاته نشر أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، وقد كانت تلك المرة الاولى التي كشفت للعالم العربي وجود شعراء فلسطينيين عرب مصممين واقوياء في <<اسرائيل>>. من بين هؤلاء الشعراء الذين عرّف الكتاب بهم: محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، وغيرهم ممن اشتهروا لاحقاً في العالم العربي وبلدان اخرى. عام 1969 كتب غسان أم سعد. وأم سعد صديقة عزيزة وقديمة، وكانت ترمز بالنسبة لغسان الى المرأة الفلسطينية في المخيم والى الطبقة العاملة. والكتاب يتحدث عنها ويتحدث مباشرة الى الناس الذين تمثلهم. وفي الحوار الذي يجري بينه وبين أم سعد، تكون المرأة الأمية هي التي تتحدث، في حين يستمع المثقف ويطرح الاسئلة. نضج غسان على الصعيد الماركسي اول ما نضج من خلال انتاجه الأدبي. وأم سعد قد كتبها روائي ماركسي، غير انه كان قد نما ايديولوجيا منذ بدايات مجلة فلسطين. فما إن حلت سنواته الاخيرة حتى كان قد غدا محللاً ماركسياً كذلك. وحملت سنة 1970 روايته الاخيرة <<عائد الى حيفا>>، لكنه ترك وراءه روايتين غير منجزتين ومسرحية غير منشورة. مما لا شك فيه ان <<غسان>> قد كان كاتباً موهوباً جداً، وهذا ما أقر به العالم العربي، وإني على يقين ان بقية بلدان العالم سوف توسع من إطار ذلك الاعتراف يوماً من الأيام. لقد قتلوه حين كان لا يزال ينمو، وكان خطره عليهم صحافياً وناطقاً رسمياً وفناناً وإنساناً اكبر من ان يتحملوا وجوده. لقد كتبت الدايلي ستار في ملحقها يوم 16 تموز 1972 تقول: <<استخدمت اسرائيل الهجوم على مطار اللد ذريعة لكي تخلق من غسان صورة للرجل المسؤول عن ذلك الهجوم، في حين ان مجال عمل كنفاني داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لم يكن ليجعله اكثر تورطاً في مثل هذه الاعمال من القادة الآخرين. إن ما حرّض الاسرائيليين على عملهم حقيقتان: أولاهما انه كان هدفا اسهل، وثانيتهما انهم كانوا سيتجاوزون تبرير اغتياله امام العالم الخارجي الى الظهور وكأنهم قد نجحوا في الثأر لهجوم اللد>>. وعلقت الجريدة كذلك بالقول إن الصحافة الغربية ولا سيما دي هامبورغر تسايتونغ ولاستامبا، والدايلي مايل قد ساعدت على تنفيذ خطة الاسرائيليين بنشرها اخباراً ملفقة عن تورط غسان في هجوم اللد، وبذلك تتحمل تلك الصحافة مسؤولية ما عما حدث. ولكن لماذا كان ينبغي عليهم ان يقتلوا غسان بمثل هذه الطريقة؟ <<لقد كان اشبه بجبل، والجبل لا يدمره إلا الديناميت>>، هذا ما كتبته صحيفة بيروتية عنه. عقب الاغتيال بساعة واحدة فقط أذاع راديو اسرائيل ان الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قد قتل، مع زوجته، بعد انفجار سيارتهما بقنبلة موقوتة. هل راقبنا القتلة زمناً طويلاً؟ هل علموا انني كنت معتادة على الذهاب الى وسط المدينة مع زوجي كل يوم سبت؟ لقد كنت اعمل طوال الاسبوع في مدرسة للاطفال المتخلفين عقلياً، وكان ذلك السبت هو السبت الوحيد الذي لم اذهب فيه مع غسان الى العاصمة. هل لاحظ القتلة ان المرأب قد كان ملعباً لجميع اطفال البناية؟ كان الاطفال قد غادروه قبيل الانفجار. ولو ان السيارة انفجرت داخل المرأب لدُمر جزء من البناية دماراً كلياً. أنا اليوم ارملة لما يقرب العام. إن المساعدة المعنوية العظيمة التي جاءتني من عائلتنا، ومن حركة المقاومة الفلسطينية، ومن جيراننا، ومن اصدقائنا المعروفين وغير المعروفين المنتشرين في انحاء العالم، قد ساعدتني خلال هذه الفترة. انه لا يزال من المستحيل ان اصدّق، او ان يصدّق الاطفال، ان حبيبنا غسان وعزيزتنا لميس ليسا معنا الآن. حدث الاغتيال صباح السبت في الثامن من تموز. قبله بيوم واحد، اصطحبنا غسان أنا وفايز ولميس والاطفال الى شاطئ البحر. كنّا ثمانية في السيارة. وكان من الممكن لحادث التفجير ان يحصل آنذاك.. تلك العشية، وصل الى البيت باكراً، وهو ما كان قد فعله طوال اسبوعين كاملين. إن حب الحياة يحتم العنف. لم يكن غسان من دعاة اللاعنف على غير طائل. لقد قتل في قلب الصراع، كما قتل من قبل كارل ليبكنخت، وروزا لوكسمبورغ، وأرنست ثالمان، ولومومبا، وتشي غيفارا. ومثلما احب هؤلاء الحياة، احبها هو. ومثلهم، رأى حتمية العنف الثوري في الدفاع عن النفس ضد قهر الطبقات المستغلة. وبالرغم من التهديدات المتكررة التي تعرّض لها فإنه لم يقهر. لقد اجبرت حركة التحرير الفلسطينية على الرد على العنف بالعنف، ضحت بأرواحها في صراع غير متكافئ وأجبرت على مواجهة الموت كل يوم. وحين سأل مراسل غربي <<غسان>> قبيل استشهاده عمّا اذا كان الموت يعني شيئا بالنسبة له، اجاب: <<بالطبع. إن الموت يعني الكثير بالنسبة لي. المهم ان نعرف لماذا. التضحية بالنفس في اطار الفعل الثوري تعبير عن الفهم الاسمى للحياة وللصراع من اجل جعل الحياة مكاناً جديراً بالإنسان. إن حب المرء للحياة يصبح ضمن ذلك الاطار حباً لحياة جماهير شعبه، ورفضا لأن تستمر حياة هذه الجماهير مليئة بالبؤس والمعاناة والشدة المستمرة. وهكذا يغدو فهمه للحياة فضيلة اجتماعية، قادرة على اقناع المقاتل الملتزم بأن التضحية بالنفس خلاص لحياة الشعب. إن مثل هذه التضحية لهي التعبير الاقصى عن التعلق بالحياة>>. كثيراً ما نزور ضريحي غسان ولميس. انهما مدفونان في ظلال الشجر، والأرض جافة وحمراء كتربة فلسطين التي طرد منها شعبهما. لقد كان على غسان ان يدفع ثمن نضاله من اجل ان يعطي الشعب الفلسطيني احتمال العودة الى بيوته في فلسطين وكانت حياته ذلك الثمن. احبه الشعب، فلقد عبر عن آمالهم وأحلامهم، وأثبت لهم ان الحياة قد تختلف عن بؤس مخيمات اللاجئين. إن عشرات الألوف الذين لحقوا بغسان الى قبره في اكبر تظاهرة شعبية منذ موت الرئيس عبد الناصر، قد كانوا من العمال، والفلاحين، والمثقفين، واللاجئين من ابناء المخيمات، واعضاء من فصائل المقاومة الفلسطينية، وممثلين عن معظم الاحزاب السياسية وأنشطة الحياة العامة. إنهم عينهم الذين اندفعوا بالمئات الى منزلنا الكائن في ضاحية خلال الايام التي اعقبت الاغتيال. العمال، المثقفون، الفنانون المعروفون، وممثلو الاحزاب السياسية في جميع انحاء العالم، عبّروا جميعهم عن تعاطفهم مع حركة التحرر ومع عائلته، ووعدوا جميعهم في الوقت نفسه بمواصلة النضال الذي افنى غسان حياته في سبيله. أحياناً اقضي الصباح في الحديقة الصغيرة التي كان غسان يفخر بها. وأذكر كيف جاء حسين، أبو لميس، سعيداً تلك الأمسية من ذات يوم سبت من اجل ان يخبر ابنته انها قد قبلت في كلية الطب في عمان وان من الممكن ان تلتحق بها بعد انتهاء عطلة الصيف. عندما وصل، كانت ابنته قد ماتت. الآن، حين يتحدث والدا لميس عن ابنتهما وعن غسان، تلتمتع اعينهما وتقوى اصواتهما. فإنه يهمهما ان يعرف الآخرون عن لميس وغسان، عن حياتيهما، عن آمالهما التي يتعلق بها الشعب الفلسطيني اجمع رغم تبعثره في اربع رياح العالم. لقد بدأت نشاطات غسان الأدبية في الحقيقة بكتاب صغير اهداه الى لميس. كانت لميس طيلة حياته عروس شعره، ولقد قتلا، ذلك السبت، بعد سبعة عشر عاماً، بالقنبلة ذاتها. وحين حاولت، بعد المأتم، ان أواسي <<حسين>> قال: <<لقد احبت غسان على الدوام وكان موتها معه هديتها إليه>>. كان غسان يرسل بكتاب الى لميس كل عام تقريباً، ولا يكتبه إلا لها. وكانت كتبه هذه مكتوبة باليد، ومقرونة برسوم توضيحية من رسومه هو. ولئن كان لغسان الكثير من الأعداء السياسيين فإنه لم يكن لديه اعداء شخصيون. بل على العكس من ذلك، فقد كان محبوباً ومحترماً من قبل اولئك الذين اختلف معهم بالذات. وغالباً ما التقى اعداؤه به، ولحقوا به الى المقبرة، واستقبلتهم في منزلنا حين جاؤوا ليعربوا عن تعاطفهم معنا. لقد أمل قتلة غسان نشر الاستسلام في صفوف اللاجئين الفلسطينيين وأملوا شق حركة المقاومة الفلسطينية. لكنهم لم .يحصدوا إلا النقيض. فلقد فهم الناس عظمة غسان، وأحبوه، وأظهروا حبهم هذا برص صفوفهم بعضها الى بعض |
||||
|
|||||
اقتباس المشاركة |
10-09-2012, 12:14 AM | #26 | ||||
قوة السمعة: 452
|
رد: مكتبة الأديب الفلسطيني الشهيـــد // غســــان كنفاني
ماذا كتبت مجلــة الآداب عن غســـان كنفاني
قصة غسان كنفاني كما ترويها زوجته الدنماركية آني في الذكرى الأولى لرحيل غسان صباح الاغتيال، جلسنا جميعنا أطول من العادة، نشرب قهوتنا التركية على الشرفة. وكان لدى غسان كما هو دأبه الكثير من الأمور للتحدث عنها، وكنّا كما هو دأبنا دوماً حاضرين للاستماع. وكان يخبرنا ذلك الصباح عن رفاقه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم بدأ يتحدث هو وأخته فايزة عن طفولتهما في فلسطين. قبل أن يغادر متوجها الى مكتبه، أصلح القطار الكهربائي لابننا فايز ولابنة أخت غسان وأخيها. كان الثلاثة يلعبون داخل المنزل ذلك الصباح. وكان على لميس، ابنة أخت غسان، ان ترافق خالها الى وسط البلد للمرة الأولى منذ وصولها من الكويت بصحبة أمها وإخوتها لأسبوع خلا، فقد كانت تعد العدة لزيارة أقربائها في بيروت. لكنها لم تفلح في الوصول الى هناك أبداً. فما هي إلا دقيقتان على تقبيل غسان ولميس إيانا قبلة <<الى اللقاء>> حتى دوى انفجار مريع. تطايرت نوافذ البيت جميعها. انحدرت بسرعة، لأجد اشلاء سيارتنا الصغيرة تحترق. وجدنا <<لميس>> على بعد بضعة امتار، ولم نجد غسان. ناديته باسمه، ثم اكتشفت ساقه اليسرى. وقفت مشلولة، فيما راح فايز يضرب برأسه الحائط، ورددت ابنتنا ليلى النداء تلو النداء: <<بابا، بابا..>>. وبالرغم من ذلك فقد ساورني أمل ضئيل بأنه قد اصيب اصابة خطرة ليس إلا. لكنهم عثروا عليه في الوادي، قريباً من منزلنا، ونقلوه بعيداً عنّا، وفقدت الأمل بأن أراه مرة اخرى. قعد اسامة قرب جسد أخته الميتة، وقال لها: <<لا تجزعي، يا لميس، ستكونين بخير، وستعلّمينني الانكليزية من جديد..>>. وفي المساء قالت لي صغيرتنا ليلى: ماما، سألت البابا أن يأخذني معه في السيارة لنشتري شوكولاته، لكنه كان مشغولاً، فأعطاني لوحاً كان يحتفظ به في جيبه. ثم قبلني وطلب مني الرجوع الى المنزل. جلست على درج بيتنا لآكل الشوكولاته، وحصل دوي كبير. لكن، يا ماما، لم تكن تلك غلطة البابا، إن الاسرائيليين هم الذين وضعوا القنبلة في سيارته>>. أنا ارملة غسان كنفاني واحد من شهداء الثورة الفلسطينية العظام. وطني الأصلي هو الدنمارك. استطيع ان اذكر بغموض الاحتلال الالماني الذي بدأ في 9 نيسان 1940. فقد انخرط أبي في حركة المقاومة، اسوة بغيره من الرجال والنساء الدنماركيين. وقدّم كثير من المقاتلين الأحرار حياتهم آنذاك، وآل بعضهم الى سجون <<الغستابو>> ومعسكرات التصفية اثناء نضالهم ضد الاحتلال الألماني. وكان الالمان يلقبون المقاتلين الدنماركيين الأحرار ب<<الإرهابيين>>، وهو الافتراء عينه الذي ترمي به القوى المحتلة قاطبة الشعوب المقهورة التي تقاوم الاحتلال وتشرع في النضال من أجل حريتها واستقلالها. بل إن حركة المقاومة الدنماركية كانت قد ساعدت على إنقاذ اليهود أنفسهم من النازيين الألمان. حين تأسست اسرائيل في 15 ايار 1948، كان الدنماركيون شأنهم في ذلك شأن معظم الشعوب الاخرى في العالم <<المتحضر>> يتحلون بفضيلة الجهل. لقد سمعنا شيئا عن <<اللاجئين العرب>>، غير ان أياً منّا لم يدرك آنذاك ان شعبا بأكمله قد دفع الثمن. وكان عليّ ان انتظر اثنتي عشرة سنة قبل ان أعي وجود شعب فلسطيني طرد من وطنه الأصلي بمعونة القوى العظمى وبشكل أساسي: بمعونة الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا. في عام 1960 شاركت في مؤتمر عالمي للأساتذة، وشاركت لاحقاً في مؤتمر للطلاب في يوغوسلافيا. وكانت تلك المرة الاولى التي واجهت فيها المشكلة الفلسطينية من خلال لقاءاتي ببعض الطلاب الفلسطينيين. وعند عودتي الى الوطن التحقت ب<<جامعة الشعب العالمية في الدنمارك>> حيث واصلت نقاش تلك المشكلة مع زملائي الطلاب. وسافر بعضنا الى لندن وشارك في مسيرة الدرماستون التي نظمها أنصار نزع الأسلحة النووية بقيادة برتراند راسل. وحين توفي برتراند راسل عن سبعة وتسعين عاماً كان ما يزال يقاتل من أجل العدالة وهذه المرة من أجل الفلسطينيين. في صيف الدرماستون ذاك، عدت الى يوغوسلافيا بصحبة فرقة فولكلورية دنماركية شهيرة، هي <<تينكلوتي>>، وهي فرقة قد كنت عضواً فيها لسنين عشر. وقد التحق بعضنا بمخيم عمل عالمي حيث التقينا بطلبة اسرائيليين، ثم التقينا في مخيم آخر بطلبة عرب، وتحدثنا عن المشكلة الفلسطينية مع الفريقين كليهما. في ايلول 1961 ذهبت الى سوريا ولبنان لكي ادرس المشكلة الفلسطينية عن كثب. وفي بيروت، عرفوني الى غسان كنفاني، وكان آنذاك واحداً من محرري المجلة الأسبوعية العربية <<الحرية>>. وكانت المجلة ناطقة باسم <<حركة القوميين العرب>>، وكان غسان محرراً للشؤون الفلسطينية فيها. حين سألت <<غسان>> ان يأذن لي بزيارة بعض مخيمات اللاجئين، تملكه الصمت. وبعد هنيهة صرخ غاضباً <<او تحسبين أن شعبنا الفلسطيني حيوانات في جنينة حيوانات؟!>>. ثم شرع بالتفسير، فتحدث عن شعبه وعن وطنه، تحدث كيف أن الأمم المتحدة نقضت ميثاقها في 29 تشرين الثاني عام 1947 (1) حين قسمت فلسطين خلافاً لإرادة سكانها العرب (الذين كانوا يشكلون آنذاك ثلثي حجم السكان، وكانوا يملكون أكثر من تسعين بالمئة من الأراضي)، وتحدث كيف أن دولة آسيوية واحدة (في الفيليبين) ودولتين افريقيتين اثنتين (هما ليبيريا وجنوب افريقيا) صوتت لصالح قرار التقسيم، وان الدولتين الأوليين قد مارست الولايات المتحدة عليهما ضغطاً شديداً لحملهما على مثل ذلك التصويت. وعلى هذا النحو، تم زرع دولة اسرائيل الصهيونية الكولونيالية بالقوة في تخوم العالم الثالث الناهض، من غير ان تتلقى اعترافاً طوعياً من اي دولة عربية او آسيوية او افريقية، باستثناء جنوب افريقيا العنصرية. وتابع غسان يحدثني عن فلسطينه الحبيبة، وعن اضطراره الى مغادرتها عام 1948 بصحبة أهله وأشقائه وشقيقاته الخمسة. ولد في عكا في 9 نيسان 1936، في بداية الثورة الفلسطينية العربية ضد القوات الصهيونية وسلطة الانتداب البريطاني. وأثناء الثورة، قام الفلسطينيون العرب بإضراب عام لعله يكون الاطول في التاريخ استمر ستة شهور. وحين اخمدت الثورة عام 1939، كان 5032 عربياً قد قتلوا و14760 قد جرحوا، وشنق مئة وعشرة اشخاص على يد السلطات البريطانية. أخبرني غسان عن الإرهاب الاسرائيلي وكيف أجبر شعبه على هجرة ارضه. وكانت مدينته عكا قد خصصت للسكان العرب، حسب خطة التقسيم التي أرستها الأمم المتحدة. غير ان عكا، أسوة بالكثير من المدن والقرى الفلسطينية، خضعت لاحتلال القوات الصهيونية، وهجر سكانها بالقوة الجسدية والنفسية. وأصيب عرب فلسطين آنذاك بالذعر الشديد بعد مجزرة دير ياسين، القرية المسالمة العزلاء. ويروي جاك دو رينير، ممثل الصليب الأحمر الدولي، في تقرير شاهد عيان ان 254 امرأة وطفلاً وشيخاً قد ذبحوا بوحشية وعن سابق عمد، وقذفت المجموعتان الصهيونيتان الإرهابيتان الايرغون وشتيرن بجثث الكثير منهم الى احدى الآبار. ولقد وصفت السلطات الصهيونية الرسمية تلك المجزرة ب<<الحادث>>. أما الايرغون بزعامة مناحيم بيغن الذي شارك في عدة حكومات اسرائيلية لاحقة وترأس إحداها فقد دعت الى مؤتمر صحافي اعلنت فيه تفاصيل الحدث، في الوقت الذي كان فيه قرويو دير ياسين الأسرى الذين بقوا على قيدة الحياة يستعرضون عراة امام سكان الأحياء اليهودية في القدس لكي يبصقوا عليهم. وقد أفرج عن الأسرى في فترة لاحقة، فغادوا الى بيوتهم ليتحدثوا عن مصائرهم، فيما راحت السيارات المجهزة بمكبرات الصوت تجول في القرى العربية معلنة انه <<إن لم تغادروا بيوتكم، فسوف يكون مصيركم كمصير دير ياسين>>. وكتب مناحيم بيغن: <<إن المجزرة لم تكن مبررة فحسب، بل إن دولة اسرائيل ما كانت لتكون على قيد الحياة لولا الانتصار في دير ياسين>>.(2) إن تكن هجرة الفلسطينيين خطة مدبرة فهذا أمر اكده العميد غلوب، إذ يروي حواراً دار بين ضابط بريطاني في <<الفيلق العربي الاردني>> ومسؤول يهودي في <<حكومة فلسطين>> في كانون الاول. فقد سأل الضابط البريطاني عما إذا كانت الدولة اليهودية الجديدة ستواجه متاعب داخلية كثيرة نظرا لتساوي عدد السكان العرب فيها بعدد السكان اليهود، فأجاب المسؤول اليهودي: <<آه، لا! سوف ندبر هذا الأمر. إن بضع مجازر محسوبة بدقة سوف تخلصنا منهم>>. (3) إن اسم <<ليديس>> الفلسطينيين ليس <<ماي لاي>>، بل دير ياسين. وقد وقعت المجرزة في 9 نيسان 1948 وصادف ذلك عيد ميلاد غسان الثاني عشر. ومذاك، لم يحتفل غسان بعيده قط. وفي مثل هذا اليوم من كل سنة، أقف أنا ارملة غسان بخشوع امام أرواح غسان والضحايا الأبرياء الذين سقطوا في مجزرة دير ياسين قبل خمسة وعشرين عاماً. وفي ذلك اليوم بالذات من عام 1940، تم احتلال وطني (الدنمارك) على يد النازيين الألمان. غادرت عائلة غسان عكا قبيل 15 أيار 1948، وكان حوالى ثمانمئة ألف عربي قد فروا من الإرهاب الصهيوني آنذاك. واستمر العرب في الهجرة، يتقدمهم الاطفال والنساء، فقد بقي الرجال ليدافعوا عن القرى والمدن. وما لبثت يافا وحيفا واللد وغيرها ان <<نظفت>> (والتعبير هو لإيغال ألون) من سكانها العرب. عندما طردت عائلة غسان من فلسطين، كانت صفر اليدين. وقد اختار الأب ان يبقى في قرية لبنانية صغيرة هي الغازية قريبة من الحدود. فالحال انه أراد ان يكون بين أوائل العائدين الى منازلهم بعد انتهاء القتال، على نحو ما نص قرار الأمم المتحدة بصدد اللاجئين الفلسطينيين (وهو القرار رقم 194، الفقرة الثالثة، الصادر في 11 كانون الأول 1948). ونحن نعلم جميعنا ان مثل هذا القرار لم ينفذ، فقد منعت السلطات الاسرائيلية الفلسطينيين العرب من العودة. لقد أراد الصهاينة الوطن، لا شعبه، وكانت مثل هذا الرغبة كامنة منذ بداية إنشائهم الكيان الصهيوني. وانتقل ابو غسان مع جميع أفراد عائلته الى قرية جبلية في سوريا تدعى الزبداني. وكانت الحياة هناك قاسية، وكان الجوع والبرد وجبتهم اليومية. وانتقلوا لاحقا الى دمشق، وشرع غسان وأخوه الأكبر بتجميع الكتب أملا بكسب القليل من المال الذي يعينهما على عول عائلتهما المؤلفة من ثمانية اشخاص بالاضافة الى ثمانية اشخاص آخرين يعيشون معهم. وما لبثا ان تابعا دراستهما في مدرسة مسائية بعد أن كانا قد عملا طوال النهار. كان غسان آنذاك في الثالثة عشرة من عمره، وكانت أخته فايزة (أم لميس) قد حصلت على الشهادة الثانوية، وذهبت عام 1952 الى الكويت حيث صارت واحدة من أوليات المعلمات، وواحدة من الفلسطينيين الكثر الذين أسهموا في نمو الدول العربية بصفتهم اساتذة ومهندسين وأطباء وغير ذلك. وبعد أن نال غسان شهادة البريفيه في السادسة عشرة من عمره، شرع بالتدريس في مدارس الأونروا. وكان، مع استاذ آخر، مسؤولين عن تعليم ألف ومئتي طفل فلسطيني لاجئ، غير ان هدف غسان الأعظم كان توعية اولئك الاطفال توعية سياسية. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن، صار سبعون في المئة من تلاميذ غسان في مدارس الأونروا مقاتلين. قبل ان يلتحق غسان بمدرسة الأونروا، عمل في مطبعة في دمشق. وفي سنة 1955 طلبت منه <<حركة القوميين العرب>> ان يعمل في تحرير جريدتها الرأي وفي طباعتها. وانتسب الى <<الحركة>> في ذلك العام. وفي العام التالي، لحق بأخته فايزة وأخيه غازي في الكويت. وأرسل ثلاثتهم اكثر رواتبهم الى عائلتهم في دمشق. وهكذا توافر للوالد دخل شهري يعول به بقية أفراد العائلة، وحصل في تلك الفترة كذلك على إذن بالعمل في سلك المحاماة في دمشق، وكان اكثر زبائنه من الفلسطينيين المدقعين. وواصل غسان، خلال السنوات الست اللاحقة التي قضاها في الكويت، نشاطه السياسي. وكان يدرّس الفن والرياضة، ولقد اثبتت تلك السنون انها جزء هام جداً في حياته. فقد قضى معظم اوقات فراغه في الرسم والكتابة والقراءة، وانصبت اكثر قراءاته على السياسة: فقرأ ماركس، وانجلز، ولينين، وغيرهم. وفي عام 1960، اقنع الدكتور جورج حبش <<غسان>> بمغادرة الكويت والمجيء الى بيروت للعمل في الحرية. منذ الأيام الاولى للقائي بغسان، أحسست بأنني إزاء إنسان غير عادي. وتطورت علاقتنا من خلال القضية الفلسطينية الى علاقة شخصية. ورغم وضعه الذي لا يبعث على الأمان فغسان الفلسطيني لم يكن يملك جواز سفر، ولا مالاً، وكان يعاني فوق ذلك من مرض لا شفاء منه هو السكري ، فإننا ما لبثنا ان اكتشفنا ان الموت وحده سوف يكون قادراً على تفريق الواحد منّا عن الآخر. وشرعت بالتدريس في روضة للأطفال. وما هو إلا شهر على وصولي الى لبنان حتى تزوجنا ولم يندم اي منّا على ذلك وكان لنا كمعظم الفلسطينيين الآخرين، مصاعبنا، الاقتصادية وغير الاقتصادية. وفي كانون الاول عام 1962 اضحى الوضع السياسي شديد الاهتزاز، فكان على غسان ان يبقى مختبئا في المنزل لفترة تزيد عن الشهر، وذلك لافتقاره الى الأوراق الرسمية. وأثناء هذه الفترة، كتب رواية رجال في الشمس التي طار صيتها في معظم أرجاء العالم العربي، وأهداها إليّ. ولقد ترجم غسان لي كل رواياته وقصصه اثناء كتابته إياها، وصرت على معرفة كذلك بكتاباته السياسية. وكان دافعه الى الكتابة لا يحد كأن في غسان نبعاً من الكلمات والأفكار يعب منه الصفحة تلو الصفحة عن فلسطين، وطنه، وعن شعبه. وكان دائم الانشغال، كما لو ان الموت يتربص به عند زاوية الشارع. وكان غسان رساماً ومصمماً للرسوم، وكانت احدى لوحاته اثناء تلك الفترة تمثل رجلاً مصلوباً بالزمن... لقد كنت شديدة التأثر بأفكار غسان، غير انه لم يفرضها أبداً عليّ. وهذا ما ينطبق على اصدقائنا الاجانب الذين اكتشفوا القضية الفلسطينية من خلاله. واهتم الكثير منهم، لاحقاً، بهذه القضية في بلدانهم ذاتها. أما علاقتي بعائلة غسان فقد كانت حميمة، فلقد رحبت بي عائلته منذ البداية بكل ما امتلكت من ضيافة ودفء، وصرت احب أفرادها حباً عظيماً. استندت حياتنا الزوجية الى الثقة، والاحترام، والحب، ولهذا، فقد كانت على الدوام مهمة، جميلة، قوية. وولد اول صبي لنا في 24 آب 1962 وأسميناه <<فايز>> ومعناه المنتصر تيمنا باسم جده. وصار غسان أكثر انشغالاً من ذي قبل، وانغمس في عمله انغماساً كلياً. وكان آنذاك قد ترسخ في حقلي الكتابة والصحافة. وفي عام 1963 عُرض عليه منصب رئيس تحرير المحرر، وهي جريدة يومية مثلت وجهات نظر القوى الناصرية والتقدمية. وما لبثت هذه الجريدة ان اصبحت ثاني أكبر جريدة يومية في لبنان، واتسع انتشارها في بلدان عربية اخرى. وعمل غسان فيها سنوات خمساً، وعمل في مجلة فلسطين الاسبوعية التي مثلت وجهة نظر الجناح الفلسطيني في <<حركة القوميين العرب>> وعالجت المسائل الفلسطينية. خلال عامي 1963 1964، كانت <<حركة القوميين العرب>> في طريق تحولها الى الاشتراكية العلمية، وقررت عام 1964 ان تعد العدة لبدء الكفاح المسلح في فلسطين. وما هي إلا فترة وجيزة حتى تأسست الفرقة المقاتلة الاولى، ولم يكن هدفها اول الامر القيام بعمليات عسكرية، وإنما الاتصال بالعرب المقيمين في <<اسرائيل>> وإنشاء قاعدة للكفاح المسلح القادم. وما لبثت <<حركة القوميين العرب>> ان قدمت شهداءها الاول في النضال من اجل تحرير فلسطين. ولقد اهدى غسان لاحقاً روايته ما تبقى لكم التي حازت عام 1966 <<جائزة اصدقاء الكتاب في لبنان>> لواحد من اولئك الشهداء، هو خالد الحاج، وكتب غسان في الاهداء: <<الى خالد.. العائد الاول الذي ما يزال يسير>>. عام 1965 دُعي غسان رسميا لزيارة الصين والهند. وهناك التقى بوزير الخارجية الصيني <<شينغ لي>> وبرئيس الوزراء الهندي شاستري، وبغيرهما من الزعماء السياسيين في كلا البلدين، وناقش المسألة الفلسطينية معهم. ولا شك في ان زيارته تلك قد اثرت فيه تأثيراً عظيماً. وبعد زيارة غسان الثانية الى الصين، حيث شارك في مؤتمر كتّاب آسيا وافريقيا، كسب فايز ابن الأعوام الاربعة طفلة جميلة، اسميناها <<ليلى>>، تيمنا ببطلة احدى اشهر الروايات الشعبية العربية، و<<ليلى>>، اضافة الى ذلك، اسم اسكاندينافي معروف في اوساط اللابيّين في المنطقة القطبية الشمالية. أحب غسان طفليه حتى العبادة، وغالبا ما كتب عنهما. وعلى قصر الزمن الذي قضاه معنا، فقد كان يلعب معهما مراراً ويعلمهما اشياء كثيرة. ولقلما فقد اعصابه، ولم يضربهما قط. واتسع سروره برفقتهما ليشمل اصدقاءهما، وغالباً ما قادهم جميعا في سيارته الى السينما او شاركهم ألعابهم في منزلنا. قبل حرب حزيران 1967 بأسبوع واحد، توفيت أم غسان فجأة في دمشق بعد اصابتها بذبحة قلبية. لكنه لم يذرف دمعة واحدة طوال مأتمها، على صدق حبه العميق لها، بل انه حاول ان يبث العزيمة في أبيه وفي افراد العائلة الآخرين. غير اننا اثناء رجوعنا الى بيروت، انهار غسان، ولأول مرة في حياتي، شاهدت دموعاً في عينيه. وعندما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر استقالته عقب حرب حزيران، وبعد ان فقد الكثيرون الأمل، رفض غسان ان يخضع للاستسلام. لقد كان في اللحظات الدقيقة قوياً بشكل لا يصدق، وكان يحاول ان يعطي شيئا من هذه القوة للآخرين. وكان يعبّر لاحقاً عن مشاعره بالكتابات السياسية والأدبية. لم يساورني ادنى شك في اي لحظة من اللحظات في ان غسان قد اختار الطريق السليم. ولو انني حاولت ان امنعه من مواصلة نضاله والتزامه السياسيين، لبقي لي زوجي، غير انه ما كان سيكون ذلك الإنسان المرهف الشريف الذي أحببته وأُعجبت به. حاولت ما في وسعي ان اشارك غسان في نضاله، قمت باتصالات مع اشخاص يعيشون في الغرب ويهتمون بمعرفة حقيقة النضال الفلسطيني. وطلبت مني مجلة دنماركية يسارية ان اكتب مقالة تشرح خلفية فلسطين، وكانت تلك المقالة واحدة من مقالات كثيرة غيرها كتبتها لاحقاً. ومنذ حرب حزيران كتبت المئات من الرسائل الى اصدقاء قدامى وجدد في اسكاندينافيا وغيرها من البلدان. وكانت احدى مراسلاتنا مع الكاتب اليهودي الشهير المعادي للصهيونية موشي مانوحين الذي يسكن في الولايات المتحدة ومؤلف انحطاط اليهودية في زمننا. وقد اعتبرناه صديقا من أصدقائنا الشخصيين. في خريف 1967، التحق غسان بهيئة تحرير جريدة الأنوار وكانت آنذاك جريدة طليعية ناصرية الاتجاه وأصبح رئيس تحرير ملحقها الأسبوعي. وكان قد بدأ كذلك بالقيام بدور قيادي في النشاطات الاعلامية الفلسطينية وتلك التي تقوم بها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وغدا من المعلوم ان كل جريدة او مجلة يساهم غسان في كتابة مقالاتها وافتتاحياتها يلحقها ارتفاع في مستواها وفي نسبة توزيعها. وراحت السفارة الفرنسية وغيرها من السفارات في بيروت تترجم مقالاته الأسبوعية في الأنوار، لما تتضمن من تحليل سياسي دقيق. غير ان غسان قرر عام 1969 ان يترك وظيفته الآمنة في الأنوار لكي يبدأ المجلة السياسية الأسبوعية <<الهدف>>، مع ان مثل هذا القرار عنى انخفاضا في الدخل. لكن <<غسان>> لم يعمل لاعتبارات مادية، فقد كان الإلهام الذي يدفعه للكتابة والعمل المتواصلين هو النضال الفلسطيني/ العربي وتحرير فلسطين. وفي تموز 1969 صدرت الأعداد الأولى من الهدف برئاسة تحرير غسان. وكان على يقين ان المجلة سوف تنقل رسالة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والقوى التقدمية الاخرى الى الجماهير العربية والرأي العام العالمي. وكان على حق. فلقد تحولت الهدف في السنتين اللاحقتين الى واحدة من افضل المجلات السياسية الأسبوعية في العالم العربي قاطبة، واقتبس الكثير من كلماتها، وترجم عدد كبير من مقالاتها وافتتاحياتها الى لغات اخرى. ولقد شارك غسان بصفته منظراً سياسياً في وضع البرامج والبيانات السياسية الصادرة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكان يقوم بأكثر عمله في المنزل لكي يكون على مقربة منّا. وصمّم الكثير من ملصقات <<الجبهة الشعبية>>، وكتب الكثير من المقالات في المنزل، حيث كان <<فايز>> و<<ليلى>> عاملين متطوعين سعيدين برؤية أبيهما يرسم ويلون. واستمر غسان في الكتابة بدون انقطاع، مقدما ل<<الهدف>> الكثير من إسهاماته. وحين اصبح الناطق الرسمي باسم <<الجبهة الشعبية>>، تناقص الوقت الذي كان يكرّسه لي وللاطفال، وهكذا فقد كان الوقت الذي نقضيه معاً ثميناً جداً. ولم تكن لديّ الرغبة في ايقافه عن العمل السياسي. فالحال ان رفاقه كانوا يقدمون حياتهم، يومياً، في النضال، او كانوا يؤولون الى التعذيب في السجون الاسرائيلية. وكان واجبه ان يحكي للعالم عن الثورة الفلسطينية. وحسب كلمات جريدة الدايلي ستار في عددها الصادر في 9 تموز 1972، فإن غسان: كان المقاتل الذي لم يطلق رصاصة واحدة. كان سلاحه قلماً، وميدانه صفحات الجرائد. لكنه آذى عدوه اكثر من رتل من المقاتلين. واثناء اختطاف <<الجبهة الشعبية>> لأربع طائرات غربية، لم نر غسان طوال اكثر من اسبوع. وكانت تلك اكثر فتراته انشغالاً في حياته الفاعلة على صعيد الاعلام. وكان قد عاد من عمان على متن الرحلة الاخيرة الى بيروت، عشية الأهوال الرهيبة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني وحركة المقاومة في الاردن. لئن عجز المئات من المراسلين الاجانب الذين ملأوا مكتب الهدف وقد غدا اسطوريا آنذاك عن اجبار غسان على القيام بحوار معهم، فذلك لأن اجاباته قد كانت على الدورام ثاقبة حادة دقيقة. ولعل السبب الرئيسي لذلك يكمن في ان القضية التي كان يدافع عنها قضية النضال الثوري الفلسطيني قضية عادلة. لقد زارنا الكثير من الصحافيين وغير الصحافيين من اجل محاولة فهم صادق لازمة الشرق الأوسط، وقد عاد كثير منهم إلينا، وبعضهم صاروا من اصدقائنا الشخصيين. لقد كان غسان واحداً من اولئك الذين قاتلوا بإخلاص في سبيل تحويل حركة المقاومة من حركة تحرر وطني فلسطيني الى حركة قومية عربية ثورية اشتراكية يشكل تحرير فلسطين مكوناً أساسياً فيها. وشدد دائما على ان المشكلة الفلسطينية لن تحل بمعزل عن وضع العالم العربي الاجتماعي والسياسي العام. وعلى الرغم من احتجاجات نقابات الكتّاب والصحافيين، فقد سجن غسان في تشرين الثاني عام 1971 بسبب مقالة في الهدف تتحدث عن نظام رجعي في بلد عربي معيّن. وسجلت الصحافة اللبنانية احتجاجها على سجن غسان من خلال المقالات والافتتاحيات. وبسبب مرضه، فقد امضى وقته في مستشفى السجن، وتسنى له مطالعة بعض مسرحيات ستريندبرغ فضلاً عن رواية طويلة للكاتب الايسلندي الحائز جائزة نوبل هالدور لاكسنس. لكن لم يتح لغسان بشكل عام ان يرتاح. فقد كان عليه ان يعمل، فكتب جزءاً من روايته الطويلة غير المكتملة التي تحكي عن فلسطين. هذه الرواية <<العاشق>> التي كان يريد ان يكتب فيها عن تاريخ النضال الفلسطيني منذ بداياته ضد السلطات البريطانية والقوات الصهيونية حتى النضال الثوري الراهن من اجل تحرير فلسطين قد كانت في باله سنوات متعددة. ولقد اجرى مقابلات مع فلسطينيين من جميع انحاء فلسطين، في المخيمات وفي غير المخيمات، وقابل المقاتلين الذين شاركوا في الثورة الفلسطينية بين عامي 1936 و1939 والذين لا يزالون يقاتلون. وكان ينوي ان ينتهي من كتابة العاشق خلال صيف 1972. وقد نشر جزء منها. وحسب القراء، فإنها عمل قوي ومؤثر. وكان الى جانب الكتابة، يرسم كثيراً، ويرسم الجياد اكثر ما يرسم. ولعب الحصان دوراً هاماً في بعض قصصه ورواياته. كان يقول إن الحصان بالنسبة لنا نحن العرب يرمز الى الجمال والشجاعة والأمانة والذكاء والصدق والحرية. وبالنسبة لي، فقد حاز غسان كل تلك المزايا. أما جياده التي رسم اكثر من عشرين منها في الاعوام الاخيرة التي سبقت رحيله فهي معلقة الآن على جدران بيوت عائلتنا وأصدقائنا في اسكندينافيا والبلدان العربية، وعلى جدران بيوت الحراس والأطباء والممرضات الذين تعرّف عليهم في مستشفى السجن. لقد سار انتاج غسان الأدبي جنبا الى جنب مع نشاطاته الصحافية والسياسية. وكان قبل موته بزمن طويل يعتبر من بين افضل الكتّاب العرب والفلسطينيين. وكان في العادة يبني القصة او الرواية او المسرحية في ذهنه، ثم يكتبها كلها في زمن قصير، مضيفا إليها تصحيحات قليلة في ما بعد. وكانت جميع مخطوطاته مكتوبة باليد، ولم يصوّر قط أياً منها. في لبنان والعالم العربي بشكل عام، يمنع المرء من مساءلة الدين والمذهبية، لكن غسان في مسرحية الباب قام بمثل تلك المساءلة من خلال مغزى عربي ما ورائي يعنى بالدين والوجودية. وبالمناسبة، فإنه على الرغم من كونه مسلماً ومن كوني مسيحية، فإن هذا الاختلاف في مذهبينا لم يشكل عائقا في علاقتنا، لكوننا قد تبنينا وجهة نظر واحدة في الدين. وفي عام 1964 ترجمت الباب الى الفرنسية ونشرت في المجلة الأدبية L'Orient الصادرة في باريس. تجلى حب غسان للاطفال في مجموعته القصصية عالمٌ ليس لنا (1965). وقد أهداها ل<<فايز وليلى>>. وفي العام ذاته نشر أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، وقد كانت تلك المرة الاولى التي كشفت للعالم العربي وجود شعراء فلسطينيين عرب مصممين واقوياء في <<اسرائيل>>. من بين هؤلاء الشعراء الذين عرّف الكتاب بهم: محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، وغيرهم ممن اشتهروا لاحقاً في العالم العربي وبلدان اخرى. عام 1969 كتب غسان أم سعد. وأم سعد صديقة عزيزة وقديمة، وكانت ترمز بالنسبة لغسان الى المرأة الفلسطينية في المخيم والى الطبقة العاملة. والكتاب يتحدث عنها ويتحدث مباشرة الى الناس الذين تمثلهم. وفي الحوار الذي يجري بينه وبين أم سعد، تكون المرأة الأمية هي التي تتحدث، في حين يستمع المثقف ويطرح الاسئلة. نضج غسان على الصعيد الماركسي اول ما نضج من خلال انتاجه الأدبي. وأم سعد قد كتبها روائي ماركسي، غير انه كان قد نما ايديولوجيا منذ بدايات مجلة فلسطين. فما إن حلت سنواته الاخيرة حتى كان قد غدا محللاً ماركسياً كذلك. وحملت سنة 1970 روايته الاخيرة <<عائد الى حيفا>>، لكنه ترك وراءه روايتين غير منجزتين ومسرحية غير منشورة. مما لا شك فيه ان <<غسان>> قد كان كاتباً موهوباً جداً، وهذا ما أقر به العالم العربي، وإني على يقين ان بقية بلدان العالم سوف توسع من إطار ذلك الاعتراف يوماً من الأيام. لقد قتلوه حين كان لا يزال ينمو، وكان خطره عليهم صحافياً وناطقاً رسمياً وفناناً وإنساناً اكبر من ان يتحملوا وجوده. لقد كتبت الدايلي ستار في ملحقها يوم 16 تموز 1972 تقول: <<استخدمت اسرائيل الهجوم على مطار اللد ذريعة لكي تخلق من غسان صورة للرجل المسؤول عن ذلك الهجوم، في حين ان مجال عمل كنفاني داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لم يكن ليجعله اكثر تورطاً في مثل هذه الاعمال من القادة الآخرين. إن ما حرّض الاسرائيليين على عملهم حقيقتان: أولاهما انه كان هدفا اسهل، وثانيتهما انهم كانوا سيتجاوزون تبرير اغتياله امام العالم الخارجي الى الظهور وكأنهم قد نجحوا في الثأر لهجوم اللد>>. وعلقت الجريدة كذلك بالقول إن الصحافة الغربية ولا سيما دي هامبورغر تسايتونغ ولاستامبا، والدايلي مايل قد ساعدت على تنفيذ خطة الاسرائيليين بنشرها اخباراً ملفقة عن تورط غسان في هجوم اللد، وبذلك تتحمل تلك الصحافة مسؤولية ما عما حدث. ولكن لماذا كان ينبغي عليهم ان يقتلوا غسان بمثل هذه الطريقة؟ <<لقد كان اشبه بجبل، والجبل لا يدمره إلا الديناميت>>، هذا ما كتبته صحيفة بيروتية عنه. عقب الاغتيال بساعة واحدة فقط أذاع راديو اسرائيل ان الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قد قتل، مع زوجته، بعد انفجار سيارتهما بقنبلة موقوتة. هل راقبنا القتلة زمناً طويلاً؟ هل علموا انني كنت معتادة على الذهاب الى وسط المدينة مع زوجي كل يوم سبت؟ لقد كنت اعمل طوال الاسبوع في مدرسة للاطفال المتخلفين عقلياً، وكان ذلك السبت هو السبت الوحيد الذي لم اذهب فيه مع غسان الى العاصمة. هل لاحظ القتلة ان المرأب قد كان ملعباً لجميع اطفال البناية؟ كان الاطفال قد غادروه قبيل الانفجار. ولو ان السيارة انفجرت داخل المرأب لدُمر جزء من البناية دماراً كلياً. أنا اليوم ارملة لما يقرب العام. إن المساعدة المعنوية العظيمة التي جاءتني من عائلتنا، ومن حركة المقاومة الفلسطينية، ومن جيراننا، ومن اصدقائنا المعروفين وغير المعروفين المنتشرين في انحاء العالم، قد ساعدتني خلال هذه الفترة. انه لا يزال من المستحيل ان اصدّق، او ان يصدّق الاطفال، ان حبيبنا غسان وعزيزتنا لميس ليسا معنا الآن. حدث الاغتيال صباح السبت في الثامن من تموز. قبله بيوم واحد، اصطحبنا غسان أنا وفايز ولميس والاطفال الى شاطئ البحر. كنّا ثمانية في السيارة. وكان من الممكن لحادث التفجير ان يحصل آنذاك.. تلك العشية، وصل الى البيت باكراً، وهو ما كان قد فعله طوال اسبوعين كاملين. إن حب الحياة يحتم العنف. لم يكن غسان من دعاة اللاعنف على غير طائل. لقد قتل في قلب الصراع، كما قتل من قبل كارل ليبكنخت، وروزا لوكسمبورغ، وأرنست ثالمان، ولومومبا، وتشي غيفارا. ومثلما احب هؤلاء الحياة، احبها هو. ومثلهم، رأى حتمية العنف الثوري في الدفاع عن النفس ضد قهر الطبقات المستغلة. وبالرغم من التهديدات المتكررة التي تعرّض لها فإنه لم يقهر. لقد اجبرت حركة التحرير الفلسطينية على الرد على العنف بالعنف، ضحت بأرواحها في صراع غير متكافئ وأجبرت على مواجهة الموت كل يوم. وحين سأل مراسل غربي <<غسان>> قبيل استشهاده عمّا اذا كان الموت يعني شيئا بالنسبة له، اجاب: <<بالطبع. إن الموت يعني الكثير بالنسبة لي. المهم ان نعرف لماذا. التضحية بالنفس في اطار الفعل الثوري تعبير عن الفهم الاسمى للحياة وللصراع من اجل جعل الحياة مكاناً جديراً بالإنسان. إن حب المرء للحياة يصبح ضمن ذلك الاطار حباً لحياة جماهير شعبه، ورفضا لأن تستمر حياة هذه الجماهير مليئة بالبؤس والمعاناة والشدة المستمرة. وهكذا يغدو فهمه للحياة فضيلة اجتماعية، قادرة على اقناع المقاتل الملتزم بأن التضحية بالنفس خلاص لحياة الشعب. إن مثل هذه التضحية لهي التعبير الاقصى عن التعلق بالحياة>>. كثيراً ما نزور ضريحي غسان ولميس. انهما مدفونان في ظلال الشجر، والأرض جافة وحمراء كتربة فلسطين التي طرد منها شعبهما. لقد كان على غسان ان يدفع ثمن نضاله من اجل ان يعطي الشعب الفلسطيني احتمال العودة الى بيوته في فلسطين وكانت حياته ذلك الثمن. احبه الشعب، فلقد عبر عن آمالهم وأحلامهم، وأثبت لهم ان الحياة قد تختلف عن بؤس مخيمات اللاجئين. إن عشرات الألوف الذين لحقوا بغسان الى قبره في اكبر تظاهرة شعبية منذ موت الرئيس عبد الناصر، قد كانوا من العمال، والفلاحين، والمثقفين، واللاجئين من ابناء المخيمات، واعضاء من فصائل المقاومة الفلسطينية، وممثلين عن معظم الاحزاب السياسية وأنشطة الحياة العامة. إنهم عينهم الذين اندفعوا بالمئات الى منزلنا الكائن في ضاحية خلال الايام التي اعقبت الاغتيال. العمال، المثقفون، الفنانون المعروفون، وممثلو الاحزاب السياسية في جميع انحاء العالم، عبّروا جميعهم عن تعاطفهم مع حركة التحرر ومع عائلته، ووعدوا جميعهم في الوقت نفسه بمواصلة النضال الذي افنى غسان حياته في سبيله. أحياناً اقضي الصباح في الحديقة الصغيرة التي كان غسان يفخر بها. وأذكر كيف جاء حسين، أبو لميس، سعيداً تلك الأمسية من ذات يوم سبت من اجل ان يخبر ابنته انها قد قبلت في كلية الطب في عمان وان من الممكن ان تلتحق بها بعد انتهاء عطلة الصيف. عندما وصل، كانت ابنته قد ماتت. الآن، حين يتحدث والدا لميس عن ابنتهما وعن غسان، تلتمتع اعينهما وتقوى اصواتهما. فإنه يهمهما ان يعرف الآخرون عن لميس وغسان، عن حياتيهما، عن آمالهما التي يتعلق بها الشعب الفلسطيني اجمع رغم تبعثره في اربع رياح العالم. لقد بدأت نشاطات غسان الأدبية في الحقيقة بكتاب صغير اهداه الى لميس. كانت لميس طيلة حياته عروس شعره، ولقد قتلا، ذلك السبت، بعد سبعة عشر عاماً، بالقنبلة ذاتها. وحين حاولت، بعد المأتم، ان أواسي <<حسين>> قال: <<لقد احبت غسان على الدوام وكان موتها معه هديتها إليه>>. كان غسان يرسل بكتاب الى لميس كل عام تقريباً، ولا يكتبه إلا لها. وكانت كتبه هذه مكتوبة باليد، ومقرونة برسوم توضيحية من رسومه هو. ولئن كان لغسان الكثير من الأعداء السياسيين فإنه لم يكن لديه اعداء شخصيون. بل على العكس من ذلك، فقد كان محبوباً ومحترماً من قبل اولئك الذين اختلف معهم بالذات. وغالباً ما التقى اعداؤه به، ولحقوا به الى المقبرة، واستقبلتهم في منزلنا حين جاؤوا ليعربوا عن تعاطفهم معنا. لقد أمل قتلة غسان نشر الاستسلام في صفوف اللاجئين الفلسطينيين وأملوا شق حركة المقاومة الفلسطينية. لكنهم لم .يحصدوا إلا النقيض. فلقد فهم الناس عظمة غسان، وأحبوه، وأظهروا حبهم هذا برص صفوفهم بعضها الى بعض |
||||
|
|||||
اقتباس المشاركة |
10-09-2012, 12:16 AM | #27 | ||||
قوة السمعة: 452
|
رد: مكتبة الأديب الفلسطيني الشهيـــد // غســــان كنفاني
آني الأعز، لكم يسخطني ألا تكون اللغة الإنكليزية لغتي الأصلية، فأعجز عن التعبير عن كل ما أشعر به وعن كل ما أود قوله في هذه اللحظة الهامة والصعبة. لقد كان غسان بالنسبة لي شخصيا وبالنسبة ل<<جبهتنا>> جمعاء، عزيزا جدا، غاليا جدا، أساسيا جدا. عليّ أن أقر بأننا قد تلقينا ضربة موجعة. الآن، يا آني، نواجه جميعنا وأنت بصورة خاصة السؤال التالي: ما ترانا نفعل لرجل، لرفيق، بهذا الإخلاص وهذه القيمة؟ ثمة جواب واحد فحسب: أن نعاني بشجاعة كل الألم الذي لا يمكن لأحد منا أن يتجنبه، ومن ثم، أن نعمل أكثر، ونعمل بطريقة أفضل، وأن نقاتل أكثر، ونقاتل بطريقة أفضل. أنت تعلمين جيدا جدا، أيتها الأخت الأعز، أن غسان كان يقاتل في سبيل قضية عادلة؛ وتعلمين أن شعبنا الفلسطيني قد خاض حرباً عادلة على امتداد خمسين عاما. ولقد وقف مؤخرا الثوريون الحقيقيون في العالم أجمع الى جانب حربنا العادلة. وهذا يعني أن دم غسام المنضاف إلى نهر الدماء العظيم الذي دفعه شعبنا طوال خمسين عاما هو الثمن الذي ينبغي علينا أن ندفعه لنفوز بالحرية والعدالة والسلام. ولا حاجة أن أخبرك أن تجربة الشعوب المقهورة في العالم أجمع تنبئ بأن ذلك هو الطريق الأوحد لهزيمة الصهيونية والإمبريالية والقوى الرجعية. آني، إني أعرف جيدا جدا ما تعنيه خسارة غسان بالنسبة لك. لكن أرجوك أن تتذكري أن لديك <<فايز>> و<<ليلى>> والآلاف من الخإوة والأخوات أعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وفوق كل هذا، لديك القضية التي حارب غسان من أجلها. آني، نحن بحاجة الى شجاعتك. إن شجاعتك في هذه اللحظة الحاسمة تعني الكثير بالنسبة لي، وبالنسبة لجميع الرفاق والمقاتلين في الجبهة الشعبية. إن أكثر ما يؤلمني في هذه اللحظة ألا يكون بمقدور هيلدا (زوجتي) ولا بمقدوري أن نكون الى جانبك. وأنت تعرفين أسباب ذلك معرفة جيدة كما أفترض. إنه ليحز في نفسي ألا أكون قد رأيت غسان، ولا كلمته قبل دفنه. أكرر: نحن بحاجة الى شجاعتك، وبحاجة الى أن تحسي بأنك لست وحدك ولن تكوني وحدك في أي زمن. وبانتظار المناسبة الأولى لرؤيتك، نبقى هيلدا وأنا أخلص أخت وأخ لك. جورج حبش تموز 1972 إلى آني من عمادة شحادة (رسالة مفتوحة في الدايلي ستار 16 تموز 1972) عزيزتي السيدة كنفاني، حين أضاع زوجك وطنه، لم يصرف النظر عنه بدمعة. كان يعرف أن الدموع لا تصحح خطأ ولا تستعيد حقا، وأن الأسى سيكون تكريسا لخسارته، وأن الأسف سيكون إشهارا لهزيمته. لقد كانت عيناه جافتين حين رهن نفسه لوطنه وشعبه. لقد خسرنا زوجك. لن نصرف النظر عنه بدمعة. إن بكاءنا عليه الآن سوف يلغي كل شيء آمن به، كل شيء مات من أجله. لقد مات غسان كنفاني وحده فقط. أما ناسه فهم لا يزالون على قيد الحياة، وسوف تحيا من خلالهم آماله وشجاعته وعزمه. إن غسان كنفاني، ميتاً، قد اكتسب حضوراً كلياً من قبل شعبه. حين يفقد الشعب آمال غسان، وحين يضيّعون شجاعته، وحين يتخلون عن عزمه، فإننا إذاك فحسب سوف نندبه. لقد فقدت زوجاً. وفقد طفلاك أباً. ولا يسعنا في مؤاساتك إلا أن نقول إن زوجك وأباهما لم يعش سدى ولم يمت عبثاً. إن حياته وموته قد جعلا الملايين من الناس فخورين بهويتهم. المخلص عماد شحادة .حبش، آني، بسام أبو شريف في الذكرى الثامنة لاستشهاد غسان د. جورج حبش(مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) |
||||
|
|||||
اقتباس المشاركة |
10-09-2012, 12:17 AM | #28 | ||||
قوة السمعة: 452
|
رد: مكتبة الأديب الفلسطيني الشهيـــد // غســــان كنفاني
حوار مع آني كنفاني(زوجة الأديب الفلسطيني والمفكــر الشهيد // غسا ا ن كنفاني) سرتْ في صوتي رعشة خفية حين ردت أني كنفاني على الهاتف. امرأة دنماركية، قدمت الى بيروت، وتزوجت فلسطينياً، واستمرت بعد موته في خدمة الأطفال الفلسطينيين واللبنانين في مخيمات اللاجئين في بيروت وصيدا. أوتكون أسطورة، هذه المرأة الدنماركية التي أحسب أنها شقراء؟ أيعقل أن تترك امرأة غربها الجميل الأشقر الفرح وتلجأ الى شرقنا الذي يهرب منه أكثر أبناء جيلي متى توفرت لهم أسباب الهرب؟ أيعقل أن تعيش عشرين عاماً في هذه الأرض الفقيرة بعد أن رحل عنها أعز من تملك: زوجها وأستاذها وحبيبها غسان كنفاني؟ حين صعدت الى البناية التي تقطن فيها آني، تدفقت في رأسي شخصيات غسان كنفاني الروائية، وتلاحقت أحداث رواياته وارتطم واحدها بالآخر. لكن صورة <<سعيد س.>> بطل رواية عائد الى حيفا طغت على كل ما عداها. حتى إذا ما فتحت لي الباب آني، الشقراء، الزرقاء العينين، كان أول ما فتشت عنه ريشات الطاووس الخمس التي تركها <<سعيد س.>> في منزله في حيفا حين طُرد منه عام 1948 وعاد إليه بعد عشرين سنة ليجده محتلاً من قبل عائلة يهودية، وليجد ريشاته الأثيرة ناقصة. وكان ثاني ما فتشت عنه صورة الشهيد <<بدر اللبدة>> أخي <<فارس اللبدة>> وهي صورة احتفظ بها مواطن عربي آخر استأجر بيت <<فارس>> عقب احتلال البلدة. لم أجد الريشات، ولم أجد صورة بدر اللبدة. لكن غسان كنفاني كان في جميع جنبات منزل آني كنفاني. ففي مواجهتي مكتبة صفت عليها آني كتبه وكتبها، وفي وسط المكتبة صورة له، وأخرى له ولها حين كانا لا يزالان يعيشان أطوار حبهما الأولى. وقرب هذه الصورة تربعت صور أخرى ل<<أم سعد>>، صديقة غسان وآني، ورمز <<الطبقة الفلسطينية التي دفعت غاليا ثمن الهزيمة (عام 67)... والتي تظل تدفع أكثر من الجميع>>(1). وعلى يساري، رأيت صورة لغسان و<<لميس>> ابنة أخته التي استشهدت معه في انفجار سيارته تلك الصبيحة المشؤومة من تموز عام 1972؛ <<لميس>> الجميلة التي كان غسان يهديها كل عام كتابا يجترحه من أعصابه وآماله الجميلة. ونظرت فوقي، فطالعني حصان غسان كنفاني برسمه سائرا في ثباته المعهود وسط الهجيرة البرتقالية. آني، يا آني، لكم أنهكتك سنون البعد عن الحبيب، ولكم أثقلتك المجازر التي حلت بشعبك الفلسطيني أنت الدنماركية التي أثبتِّ، بصمودك في بيروت عشرين عاما بعد رحيل غسان، وبإشرافك على مؤسسات تعليم اللاجئين الفلسطينيين ورعايتهم، قول <<سعيد س.>> ومن ورائه غسان كنفاني نفسه، إن <<الإنسان قضية>>، وإن فلسطين: ... أكثر من ذاكرة، أكثر من ريشة طاووس، أكثر من ولد، (هل نضيف: أكثر من زوج؟)، أكثر من خرابيش قلم رصاص على جدار السلم.. لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط. أما خالد (ابن سعيد س.) فالوطن عنده هو المستقبل. وهكذا كان الافتراق، وهكذا أراد خالد أن يحمل السلاح...(2) وأثبتّ، بصمودك ونضالك، قولاً آخر لغسان: إننا حين نقف مع الإنسان، فذلك شيء لا علاقة له بالدم واللحم وتذاكر الهوية وجوازات السفر(3). لا يعرف العرب الكثير عن آني كنفاني. لقد تحدثت في كتابك عن التحاق أبيك بحركة المقاومة الدنماركية في مواجهة النازية التي احتلت الدنمارك. هل بإمكانك أن تحدثينا عن خلفيتك العائلية، عن توجهاتك السياسية، وعن نشاطاتك الطلابية؟ كان جدي من أوائل الثوريين، ومن أوائل الديموقراطيين الاشتراكيين في الدنمارك. وكان أبي نجارا، التحق بداية حياته بالحزب الشيوعي الدنماركي، وعمل طويلا في خدمة الفقراء وفي سبيل تطوير أوضاع العمال في المجتمع والحزب ونقابات العمال. وقاتل، مع رفاقه، ضد الاحتلال النازي الذي احتل الدنمارك. أما عن وضعي الشخصي، فأنا لم أكن منخرطة انخراطا مباشرا في العمل السياسي. لقد شاركت مثلا في التظاهرات المطالبة بالحد من استشراء الأسلحة النووية، والمطالبة بالسلم، وغير ذلك من النشاطات التي تكثفت إبان مرحلة <<الحرب الباردة>> منذ منتصف الخمسينيات. وقد كنت تلميذة، ثم صرت معلمة. وكنت نشطة في حقل العمل الاجتماعي الثقافي، كالفولكلور والموسيقى الشعبية، وسافرت بصحبة فريق متخصص في هذا الحقل الى عدة بلدان في أوروبا. وذهبت في إحدى رحلاتي تلك الى يوغوسلافيا حيث واجهت للمرة الأولى قضية الشعب الفلسطيني. وُلدت أثناء الحرب، ولا أزال أذكر بعض أحداثها. كان على عائلتي أن تغطي النوافذ أثناء الليل كي لا تنكشف البيوت زمن الاحتلال النازي. وتدفق المهاجرون الألمان وغير الألمان الى الدنمارك. وكانت ثمة امرأة مهاجرة تعيش سرا معنا؛ لم نخبر أحدا بأمرها. وكنا نعيش في بيت صغير. وذات يوم اختفت هذه المرأة، وظننت أنها قد ارتحلت الى السويد شأنها شأن عدد من المهاجرين واللاجئين السياسيين الآخرين إبان الغزو النازي. وكان ثمة إشارة سرية/ إنذار لأبي، عبارة عن زهرة معينة نضعها عند شباك بيتنا؛ وكانت مثل هذه الإشارة تعني أن عليه ألا يدخل البيت بل أن يواصل طريقه على دراجته، لأن ذلك يعني أن الألمان يراقبونه. كان والداي من الناس الأصيلين الكرماء. خلال الثورة الأهلية الإسبانية التي اندلعت بين عامي 1936 و1939 وهي الفترة التي صادفت كذلك اندلاع الإضراب الشهير في فلسطين كانت أمي وكثيرات غيرها من النسوة الدنماركيات تجمع الثياب أو تصلحها وترسلها الى القوى التقدمية في إسبانيا. لا شك في أن أفراد عائلتك وأباك الشيوعي بشكل خاص قد تعاطفوا مع اليهود الذين اضطهدهم الألمان النازيون، على نحو ما اضطهد هؤلاء الشيوعيين والتقدميين الآخرين كذلك. بالضبط! هل أحسست في يوغوسلافيا، حين واجهت مأساة الشعب الفلسطيني للمرة الأولى في حياتك، بالصدمة؛ صدمة أن يكون جلادو هذا الشعب هم أنفسهم أولئك الذين جلدهم النازيون، وهم أنفسهم أولئك الذين تعاطفت أنت وتعاطف أبوك وأمك معهم سنين طويلة؟ حين أعلن عن إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، كان أكثر الناس في بلدي فرحين. فقد أتيح أخيرا لليهود المضطهدين مكان آمن. ولم يعرف أكثر الناس آنذاك أو أنهم لم يفكروا بأن ثمة شعبا آخر يحيا هناك، في فلسطين. وحين قال لي طالبان في <<دوبرفنيك>> في يوغوسلافيا أثناء حضوري مؤتمرا للطلاب إنهما فلسطينيان، قلت: <<أوه! جيد! إنني أعرف شيئا عن الرقص الشعبي الإسرائيلي!>>. عندها، نظرا إليّ وطلبا مني الجلوس والتحدث إليهما، وأخبراني عن المأساة الفلسطينية. فتملكني الغضب الشديد، لأنه كان قد مضى حوالى ثلاثين عاما على نشأة تلك المأساة من غير أن أعرف عنها شيئا! وتساءلت: إذا كان هذا شأني أنا القادمة من عائلة تقدمية فماذا يكون شأن الآخرين؟ هل طرح مثل هذا التساؤل في ذهنك آنذاك تساؤلا آخر عن طبيعة القوى اليسارية التقدمية في وطنك وفي أوروبا بشكل عام تلك القوى التي تحدثت على الدوام عن التضامن الأممي ودعم الشعوب المقهورة؟ نعم. لكن لا تنس أننا نتحدث عن مرحلة الستينيات. كان الشيوعيون واليهود آنذاك مضطهدين سواء بسواء. وكان الكثير من الشيوعيين يهودا. غير أن الدنماركيين لم يكونوا يعلمون شيئا عن الفلسطينيين. فقد كان الإسرائيليون مهيمنين على الصحافة آنذاك؛ بل إنهم لا يزالون كذلك حتى اليوم، وها هو رئيس تحرير واحدة من كبريات الجرائد الدنماركية مواطن إسرائيلي الى جانب كونه مواطنا دانماركيا! وحين عدت من يوغوسلافيا وأخبرت والدي بما سمعته من الفلسطينيين، دهش واعترف بأنه لم يكن يعلم شيئا من ذلك القبيل. وحين طرحت هذا الموضوع أمام الطلاب والأساتذة، لم يعلم إلا أستاذ مهاجر واحد بما كنت أقوله، رغم أن بعض الطلاب أبدوا اهتماما بالموضوع. وتساءلت مرة أخرى: <<كيف استطاع العالم أن يتدبر أمر دفن القضية الفلسطينية ثلاثين سنة بأكملها؟!>>. إن الشعب الدنماركي لم يتجاهل القضية، وإنما عتم عليه الإعلام تعتيما تاما. ما كان انطباعك الأول عن الفلسطينيين اللذين قابلتهما؟ كانا منطقيين. لم يخبراني عن مشروعهما السياسي فقد كان لقائي بهما في أول الستينيات، أي قبل أن يختمر مشروع دولة علمانية ديموقراطية في فلسطين لكنهما شرحا لي ما حدث لوطنهما. ثم ذهبت الى سوريا ولبنان عام 1961 وتعرفت بطريقة أفضل على المشكلة الفلسطينية. وكتبت مقالة، بعد زواجي بغسان بعامين، نشرتها في الدنمارك، وصار أهلي أكثر تفهماً للقضية الفلسطينية، وحين ذهب غسان الى الدنمارك عام 1964 تحسن الوضع تحسنا ملحوظا، وكتب أبي عدة مقالات وصار أخي جزءا من الحركة المؤيدة للفلسطينيين. وتطور الوضع بعد هزيمة 1967، ويمكن القول إن جزءا يسيرا كان يكتب في الصحافة الدنماركية عن فلسطين قبل ذلك الزمن. لا شك في أن الدنماركيين والعرب هنا قد طرحوا عليك أو كان بودهم أن يطرحوا عليك سؤالا شبيها بالتالي: لماذا تتخلى طالبة وأستاذة دنماركية عن وطنها الأصلي وتعتنق وطنا آخر لا يوجد إلا في الماضي وفي الأحلام والأماني؟ قد يكون لخلفيتي العائلية والطبقية (فقد كان أبي، على ما أسلفت، ثوريا وابن طبقة عاملة) دخل في توجهاتي السياسية الجديدة. بالطبع ثمة قضايا في الدنمارك أهل لأن يناضل المرء من أجل تحقيقها. ولكن القدر، ربما، قد دفعني الى المجيء الى هنا. ولا شك في أن المشكلة الفلسطينية مختلفة نوعا ما عن غيرها من المشكلات العالمية. فليس ثمة شعب طرد بأكمله من أرضه وهجر الى بلاد أخرى. لكن أبي ناضل ضد النازيين، والإسبان ناضلوا ضد فرانكو، ثمة نضال من أجل إحقاق حقوق الأطفال في أن يكون لهم مأوى وكساء وتعليم وغذاء في العالم أجمع. أنتقل الى غسان كنفاني. التقيته في أيلول عام 1961 في بيروت وكان آنذاك محررا في الحرية الناطقة بلسان حركة القوميين العرب. هل تذكرين لنا بعض تفاصيل لقائكما الأول؟ (شعت عينا آني لحظة، ثم خمدتا، وعادتا الى الإشعاع، قبل أن تضيف:) جئت من يوغوسلافيا الى دمشق، وفي نيتي أن أذهب بعد ذلك الى بيروت ومصر. وكان لغسان أصدقاء أعطوني رسالة لكي أحملها له الى بيروت، فيعينني كذلك على الدخول الى المخيمات الفلسطينية. وحين أخبرت غسان بمرادي غضب، وقال إنني لا أوافق على أن تشاهدي مخيمات اللاجئين قبل أن تعرفي أكثر عن المسألة كلها... ماذا شعرت إذاك؟ كنت قبل جواب غسان متحمسة لرؤية المخيمات. لكني لم أحس بالإهانة بعد جوابه. وبعد ذلك؟ تزوجنا في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1961. وولد فايز في العام التالي.. وصار غسان رئيس تحرير المحرر، وكان عمر فايز آنذاك عاما ونصف العام. كان غسان يعمل كثيرا، بل إنه كان يتابع عمليات طبع الجريدة نفسها! وتحولت المحرر الى ثاني أكبر جريدة لبنانية حين كان غسان يرأس تحريرها. وكتب غسان في الحوادث أيضا، وفي الأنوار تحت اسم مستعار هو <<فارس فارس>>. هل قال لك لماذا كان يستخدم اسما مستعارا؟ الحقيقة أن مجمل ما كتبه بهذا الاسم عبارة عن مراجعات كتب، ونقد اجتماعي. ربما كان ذلك طريقه للكتابة بأسلوب آخر غير ذاك الذي استخدمه في رواياته وقصصه ومقالاته السياسية. ولم يكن تغيير اسمه لأي دواع سياسية. وكيف عشتما بعد ذلك؟ سكنا في شقة في شارع الحمراء ببيروت. وفي بداية عام 1962 حصلت محاولة انقلاب في لبنان. ولم تكن لديه أوراق رسمية، فلازم البيت وكتب رجال في الشمس. ولكن قبل أن نتحدث عن رجال في الشمس، هل باستطاعتك أن تذكري لنا كيف عرض عليك الزواج؟ بالطبع! نستطيع أن نلغي هذا السؤال إن شئت! لا! لا أمانع! لقد دعاني الى العشاء بعد أسبوعين على لقائنا، وكان ذلك في مقهى الغلاييني. وجلس. وقال: قبل أن نغادر هذا المقهى، عليك أن تجيبي عن سؤالي: <<هل تتزوجينني>>؟. ثم أردف قائلا: <<لكني فقير، لا مال لي، لا هوية، أعمل في السياسة، لا أمان، لي، وأنا مصاب بالسكري>>. هل كنت تضحكين؟ (ضحكت آني، وأشعت من جديد، وقالت): كنت أستمع الى كل تلك <<النقاط السود>>. ثم قلت له: <<عليّ أن أفكر بعرضك>>. وكنا نصعد الدرج المفضي الى فناء المقهى، لكني قبل أن أصل الى الدرجة العليا قلت: <<نعم، سأتزوجك!>>. وأذكر أننا ذهبنا الى مقهى <<الدولتشي فيتا>>، وشاهدنا بعض الأصدقاء القدامى، وأخبرناهم بقرارنا. وتحمس وضاح فارس، ولا سيما حين علم بأننا سوف نقيم احتفالا بالمناسبة! (ضحك). هل حاول أصدقاء غسان الفلسطينيون ثنيه عن الزواج بأجنبية؟ منذ الأيام الأولى لوصولي الى بيروت، التقيت بأصدقاء غسان من <<النادي الثقافي العربي>>. ولم يثنه أحد على الإطلاق. هذا حسب علمي على الأقل. وهل التقيت به بشكل مكثف على امتداد الأسبوعين اللذين سبقا زواجكما؟ نعم. كنا نلتقي يوميا. وذات يوم قالت لي زوجة أخي ان أكثر صديقاتي قد تزوجن. وكنت يومها في الخامسة والعشرين من عمري. وهل ثناك أحد من عائلتك عن الزواج بأجنبي؟ لم يتح لأحد الوقت لمثل هذا الثني! غير أن أمي كانت شديدة الحزن في البداية. وبعثت لأهلي بدعوات لحضور عرسي. لكن صدمتهم كانت أعظم من أن يتماسكوا! غير أن أخويّ الأكبرين قالا لوالدي: <<لا تقلقا! آني فتاة ناضجة وتعرف ما تصنع>>. لكني علمت في ما بعد أن زواجي كان صدمة لأمي. كانت فكرة جيلهم عن <<العربي>> تتلخص في أنه يتزوج من أربع نساء، الى ما هنالك من خرافات. (وهنا ألحت آني على العودة بذاكرتها الى ما قبل زواجها بغسان) أذكر الآن أنه عند قدومي الى دمشق قبل الزواج من يوغوسلافيا، رحت أفتش عن مركز الاتحاد العام لطلبة فلسطين. وما إن نزلت من السيارة حتى نظرت حولي، فلم أعثر على شيء حي. وفجأة وجدت سيارة ذات لوحة دانماركية! فعزمت على المكوث قرب السيارة لحين وصول صاحبها. وإذا بصاحبها طبيب دنماركي يعمل في <<الفاو>>. فأخبرته بحالي، فعرض عليّ نقلي في سيارته الى حيث ينزل في أحد الفنادق، على أن نتناول طعام الغداء معا، ثم يريني بعض شوارع دمشق. كانا إنسانا طيبا. ثم قال لي: <<غدا، عليك أن تذهبي الى سفارة الدنمارك، ومن ثم عليك أن تعودي أدراجك الى الدنمارك!!>> لكني أقمت بضعة أيام في منزل في دمشق للطلاب العرب، قبل أن أذهب الى بيروت وأتزوج غسان. وبعد مدة، كتبت الى ذلك الدنماركي، وقلت له إني لم أعد الى الدنمارك وإني سوف أتزوج ههنا في بيروت! لقد عاملني أصدقاء غسان وعائلته (عمته، أخته...) بحميمية. وكنا نعيش، أنا وغسان، في بناية حيث صيدلية المدينة في الحمراء. ما كان موقف غسان من المراسلين الأجانب والمراسلات الأجنبيات؟ كان غسان يقابل العشرات من هؤلاء، ولا سيما حين أصبح الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكان يتوقع أن يكون بعضهم ساذجا، أو راغبا في التعاطف الزائف مع الشعب الفلسطيني، أو جاسوسا. لكن غسان امتلك قدرة فائقة على الإقناع، وتحوّل مكتب الهدف الى <<خلية نحل>> للمراسلين. ولم يكن له أعداء حتى بين أولئك المراسلين الذين كانوا يعادون القضية الفلسطينية. وإني لا أشك لحظة في أن سببا أساسيا من أسباب اغتيال الصهاينة لغسان هو قدرته على إقناع المراسلين والعالم أجمع بعدالة القضية الفلسطينية. لنعد الى رجال في الشمس. كتبها غسان خلال شهرين من الاختفاء عن أعين السلطات اللبنانية. بل إني أذكر أن الشرطة جاءت لتفتيش البناية. فزعم ناطور البناية أن ساكن شقتنا امرأة أجنبية. وقد كان ذلك السبب الأوحد في عدم تفتيش شقتنا وربما السبب الأوحد في عدم إلقاء القبض على غسان. إذن، لقد أنقذته! الحقيقة أن الناطور هو الذي أنقذه. ماذا بعد عن ظروف كتابة الرواية؟ كان غسان يدخن ثيرا. وفجأة قرر أثناء كتابة رجال في الشمس أن يتوقف عن التدخين، ورمى بعلبة الدخان، وقال: <<خلص!>> ثم قرأ الرواية لي مترجمة، وأهداها لي. هل كنتِ تعترضين على بعض ما يكتب؟ كنت أحب جميع ما كتبه. وأعشق رجال في الشمس، وأرض البرتقال الحزين، وعالم ليس لنا. وأعتقد أن كتابته تأخذ بالأنفاس، وقد كتبت لي صديقة دنماركية تقول إنها لم تفهم القضية الفلسطينية ولم تقدرها قبل أن تقرأ رجال في الشمس. ما كانت علاقة غسان بخالد الحاج؟ خالد الحاج كان من أوائل الشهداء الفلسطينيين. خالد، وأحد اخوة <<أبو ماهر اليماني>>، كانا من أوائل الشهداء على طريق تحرير فلسطين. وكان خالد من أصدقاء غسان المقربين، ولهذا أهداه ما تبقى لكم. كيف كان وقع هزيمة 67 على غسان؟ أيقظته صباح الخامس من حزيران وأخبرته بأن الحرب قد بدأت. كان شديد الحماسة أول الأمر. ووصف حماسة العرب آنذاك في أم سعد، فذكر أن أم سعد قد قذفت بالراديو بعيدا لكثرة ما أورد من أكاذيب عن انتصارات العرب. وحين علم غسان بالهزيمة، أصيب بالخيبة الشديدة ولا سيما بعد أن تحدثت الإذاعات عن الانتصارات المزعومة. لكني ما زلت أعتقد أن غسان احتفظ بإعجابه بجمال عبد الناصر رغم الهزيمة. كيف كان وضع غسان الصحي آنذاك؟ كان غسان يعاني، بالإضافة الى داء السكري، من داء المفاصل؛ وهو داء يلم بالإنسان عادة من التخمة وكثرة الجلوس، ويسمى هذا الداء ب<<داء الملوك>>. وذات يوم ذهب غسان الى الطبيب وقال: <<شوف يا حكيم. الله حطني في الملف الغلط. أعطاني السكري وهذا مرض يأتي في كثير من الأحيان لمن يأكل كثيرا وأعطاني داء المفاصل مع أني فقير معدم وكثير الحركة!>>. والمعلوم أن غسان كان يكتب كل يوم، وقد ألف حوالى 19 كتابا خلال سنوات قليلة، وكان صحافيا مداوما. غادر غسان جريدة الأنوار عام 1969، وأسس مجلة الهدف. هل تذكرين شيئا عن ملابسات مرحلة الانتقال تلك؟ حين أراد غسان الاستقالة من الأنوار ومن ملحقها، قال لي سعيد فريحة: <<لا أريدك أن تذهب!>>. بل ان فريحة عرض عليه زيادة في مرتبه. لكن غسان رفض رغم كون مرتبه الجديد في الهدف هزيلا. فقد كان لغسان على الدوام <<هدف>> حتى قبل تأسيس الهدف. ومع الهدف كان مقتنعا بأنه سوف يصل الى الجماهير والى المخيمات الفلسطينية بشكل مباشر. حادثة ذكرها لك أثناء عمله في الهدف؟ ثمة مراسل من مراسلي الهدف كتب ذات يوم مقالة تهاجم عاهل المملكة العربية السعودية. ولم يكن غسان في بيروت آنذاك، لكنه أعلن أنه يتحمل مسؤولية كل ما يكتب في المجلة. فأخذ الى بعبدا، لكنه لازم مستشفى السجن طوال الوقت. وكان في تلك المرحلة شغوفا برسم الجياد وتلوينها، فيعرضها أمام ممرضيه ويهديهم إياها. وكانت ثمة ممرضة شديدة العناية والإعجاب بغسان، وتأتيه بكل ما يرغب، بل إنها ظلت تأتي مع أولادها الى بيتنا بعد استشهاده أيام رمضان وأعياد الميلاد، وتجلب لولدينا الهدايا. كانت تعرف أدب غسان قبل أن يسجن، بالطبع. لكن بقية الأطباء، بمن فيهم أولئك الذين لم يعرفوه قبلا، أعجبوا به كثيرا. كان لغسان حس نكتة قوي، وكان مستقيما، ولم يكن له أعداء شخصيون. علاقته بأطفاله؟ علاقة ممتازة. وينطبق القول على علاقته بأطفال الجيران وأطفال أصدقائه. وكان يأخذ أطفاله وأطفال الجيران الى سينما الحمراء أيام الأحد بعد الظهر ليشاهدوا الصور المتحركة. (كانت ظلال الأسى قد بدأت تلوح على وجه آني الطيب) هل كانت لغسان نظرة رجعية الى المرأة، والى المرأة الغربية، أسوة بالكثير من مثقفينا بمن فيهم أولئك الذين يسافرون الى الغرب ويقيمون علاقات ما مع النساء الغربيات؟ وما درجة تقدمية غسان كنفاني حين يتعلق الأمر بالقضايا الشخصية الاجتماعية اليومية؟ كان يشجع النساء في الجبهة الشعبية، كليلى خالد، على مواصلة النضال والقتال. وكانت كتبه كأرض البرتقال الحزين ومن قتل ليلى الحايك مليئة بالنساء ذوات الشخصيات القوية والإرادة الصلبة. وذات يوم، سألته بعض المراسلات السويديات في لقاء في الجامعة الأميركية في بيروت عن موقفه من الرجل العربي الذي يتزوج أربع نساء وما ملكت أيمانه. وتحدثن عن قمع المرأة في البلاد العربية. فأجاب غسان: <<هنا يتزوج الرجال نساء كثيرات بطريقة شرعية. وأما في الغرب، فللكثير من الرجال عدة نساء من غير أن يتزوجهن. فما الفرق؟>>. هذا لا يعني أن غسان كان يؤيد تعدد الزوجات. على العكس تماما. غير أنه كان يؤمن بأن لا تحرر حقيقيا للمرأة من غير تحررها الاقتصادي. وكان يعتقد أن تحرر المرأة يتم جنبا الى جنب مع تحرر الرجل والمجتمع، أي في سياق التحرر المجتمعي العام. وكان بالطبع يطرح الكثير من الأسئلة بصدد الحركة النسائية في الغرب؛ بل إن النساء في الغرب على نحو ما تبيّن الجريدة الدنماركية التي تجدها أمامك على الطاولة يطرحن اليوم مثل هذه الأسئلة بصدد حركتهن عام 1968. وكان يقول لي: <<لك حريتك شرط ألا تؤذي مشاعري، ولي حريتي شرط ألا أؤذي مشاعرك>>. الحرية مسؤولية، وهذا موقفي أيضا. هل كان غسان تقدميا تجاه ابنته؟ للأسف لم يتح له الوقت ليمتحن نفسه؛ فقد داهمه الموت وليلى بعد صغيرة! آني، ماذا عن ولديك؟ كيف يريان غسان كنفاني اليوم؟ وما درجة تأثيره فيهما؟ كتبت لي ليلى من الدنمارك رسالة جميلة وبالمناسبة أتنبأ بأنها سوف تكون قصاصة جيدة تقول إنها لا تنتمي الى الدنمارك، وإنما الى لبنان وفلسطين. وقالت إنه على رغم المزايا التي توفرها الدولة للمواطن في الدنمارك فإن شيئا لن ينسيها أنها فلسطينية. صحيح أن لغتها العربية كما لاحظ أحد الأساتذة ليست بجودة لغة أبيها الكاتب، ومرد هذا، ولا شك، الى حال الاقتلاع القومي الذي خضعت له (من بيروت الى الدنمارك...). لكن ليلى وأخاها فايز شديدا التأثر بغسان وبأفكاره مع أنه مات حين كانا صغيرين جدا. أما فايز فلغته العربية جيدة جدا. وقد ترجم كتابا لغسان الى الدنماركية. والاثنان يعبّران عن أفكارهما عبر رسائل أخرى غير الكتابة. ليلى رسامة جيدة، وقد رسمت أثناء حرب الخليج لوحة كبيرة تصور مشاعرها عندما انهار ملجأ العامرية في بغداد فوق رؤوس اللاجئين بفعل القصف الأميركي. وفايز يتعاطى الإخراج السينمائي، ويطمح في أن يخرج في المستقبل فيلما مستمدا من إحدى قصص غسان. ابنة ترسم، وابن يصور، وزوجة تدير مؤسسة تعليمية للاجئين. غسان لم يمت إذن! لا تنس أنه يحيا أيضا من خلال كتبه هو بالذات. تلقيت رسالة من امرأة دنماركية لا أعرفها على الإطلاق. ذهبت الى معرض للكتب في فلسطين وراحت تقلب كتابا لغسان. وإذا بفتاة فلسطينية في حوالى العشرين من عمرها تقف الى جانبها، وتشير الى صورة غسان، وتقول: <<اسمعي! هذا بطلنا!>>. (آني تغص إذ تنطلق بكلمة اOurn heroب. وتصمت. ثم تنظف حنجرتها، قبل أن تضيف): في فلسطين المحتلة، تقرأ كتبه. ليس المهم أن يعيش المرء طويلا، وإنما المهم ما يفعله أثناء حياته. إن ما فعله غسان خلال أعوامه الستة والثلاثين عظيم الأثر. وكان يعلم أنه لن يعود الى فلسطين أثناء حياته، لكنه كان واثقا أن أولاده سوف يعودون (؟). وكان يدرك أن الصراع طويل وأنه بحاجة الى الكثير من الدماء؛ ذلك ما قاله عقب مجازر أيلول الأسود تحديدا. وحين سأله أحدهم: <<الجبهة الشعبية تقول إن الأعداء هم إسرائيل، والصهيونية العالمية، والامبريالية الأميركية، والرجعيون العرب. فكيف ستقاتلون وتنتصرون؟>>، أجاب غسان: <<لم نختر <<أعداءنا. ولكن حين يقاتلوننا نقاتلهم!. د. سماح ادريس |
||||
|
|||||
اقتباس المشاركة |
10-09-2012, 12:19 AM | #29 | ||||
قوة السمعة: 452
|
رد: مكتبة الأديب الفلسطيني الشهيـــد // غســــان كنفاني
التحريض ودلالة الموت كنا ندخل، قبل الآن، إلى عالم غسان من باب ممارسة الكلمة المسؤولة، أو من باب قلق الإبداع، أو من البابين معاً. وكان الزمان معنا كريما، أي ظالما، فأعطانا بابا ثالثا هو: السياق الذي نعيش. فبعد أن تراجع زمن <<الرجال والبنادق>>، وارتبك حديث الوضوح، طُردت المسلمات الأولى من قواعدها، وأخذت لغة المصالحة مع العدو الصهيوني شكل الحكمة السياسية. ومن هذا الارتباك خرج، ربما <<إميل حبيبي>> بمواقفه المريضة، يسلّع ضلالا باسم السلام والواقعية، ويسوّق تضليلا باسم زمن جديد. والرجل في بيعه وشرائه الحزينين يبدّد أعوامه السبعين ويشعل النار بكلمات وضيئة صاغها في زمن سبق. فبعد أن حرر حبيبي الصهيونية من تهمة العنصرية، قبل سنوات، استقوى بصمت مريب، وقبل جائزة إبداع صهيونية، تجعل من إلغاء الشعب الفلسطيني متكأ للإبداع. وحبيبي في مساره المريض لا يقتصد في إهانة التاريخ؛ فيرى في تكريم الثقافة الفلسطينية المفترض تكريما للثقافة اليهودية في تطويرها الفلسطيني؛ فالأصل واحد، والحاضر يستعيد الأصل ويمسح عنه الغبار، والغبار يتراكم حيث له أن يتراكم، يتراكم فوق ذاكرة الكاتب العجوز، التي تساوي بين السجين والسجان، وبين السلام والإذعان. في سياق كهذا تأخذ صورة غسان بعدا جديدا وتصبح العودة إليها ضرورة وطنية أخلاقية. تؤكد الصورة وظيفة الكاتب الوطني، ووحدة الكلمة والموقف، والبحث عن قول جديد يصون تاريخ الوطن كريما. بل يمكن لهذه الصورة أن تصوغ قلق المبدع الوطني، حيث يتحول المبدع في سعيه لتحويل الوقائع التي هزمت شعبه. ولعل التحويل المتواتر في تجربة غسان منحه هوية خاصة به، تتمايز وتختلف عن هويات أخرى. لم يكن غسان يكتب قول فلسطين بقدر ما كان يبني قول فلسطين في قوله الخاص به ككاتب ومفكر ومقاتل. بل إن غساناً لم يكن مبدعا إلا لأنه استخلص قوله الخاص من القول الفلسطيني العام. فكانت فلسطين كاملة الحضور في ممارساته بقدر ما كان حاضرا ومتميزا ومتفردا في ممارساته الوطنية. وإذا كان يتناول الشأن الفلسطيني، في عموميته، بمقولة محددة هي <<التحريض>>، فإنه كان يعيد صياغة هذا الشأن بفلسفة به خاصة تدعى <<جمالية الموت الطليق>>. كان يكتب، في مستوى أول، عن فلسطين؛ ويكتب، وفي اللحظة ذاتها، وفي مستوى ثان، عن وجوده الإنساني في التجربة الفلسطينية. تقوده الكتابة الأولى الى فلسطيني لا يقف، وعليه إجادة الوقوف مقاتلا؛ وتقوده الكتابة الأخرى الى ذاته المسكونة بفكرة موت مختلف. وفي تحريض منفتح على الحياة ووعي أسيان متمرد يهجس بالموت، قدم غسان فناً مبدعاً، يتوازن فوق عنصرين، لا يمكن إرجاع أحدهما الى الآخر. يتحدث غسان عن تجربة محددة ومحدودة هي: تجربة فلسطين، ويتحدث عن قلق تجربة التحرر الإنسانية التي تفيض عن التجربة الفلسطينية. البحث عن التحريض في السطور الأولى من رواية لم تكتمل نقرأ في برقوق نيسان ما يلي: <<عندما جاء نيسان أخذت الأرض تتضرج بزهر البرقوق الأحمر وكأنها بدن رجل شاسع، مثقب بالرصاص>> (ص 581). وقد يبدو أن الصورة أثر لسطوة الكتابة، إذ جسد الشهيد المثقب بالرصاص يماثل أرض الربيع ويناظرها. غير أن غساناً في صفحات لاحقة يعطي الربيع وأرضه موقعا ثانويا ويقيم الربيع كله في جثة الشهيد المدافع عن الأرض: <<بدن الأرض مثل بدن رجل مثقب بالرصاص، يتضرج بزهر البرقوق، ويكاد المرء يسمع نزيز الدم يتدفق من تحته، ولا ريب أن قاسم بدا كذلك بعد هنيهات من سقوطه>> (585). يذهب الجمال كله الى الشهيد؛ فهو الأرض والربيع وموضوع الكتابة. يعلن الشهيد بدمه عن جمالية قضية ذهب في سبيلها، ويخبر الكاتب بحبره عن جمالية الشهيد؛ لكأن اختلاف اللون بين الحبر والدم عارض، كلاهما يتفجر وينز ويتسرب في مسام أرض قريبة وبعيدة في آن. وفي تماهي اللون يصبح الكاتب مقاتلاً، يسبق المقاتل المسلح، ويزامله، ويكتب عنه بعد اكتمال الشهادة. لقد وحّد غسان بين الكلمة والرصاصة، وكان في توحيده الحالم والواقعي في آن، يطرح سؤال الفلسطيني المقاتل الذي عليه أن يحسن أنواع القتال كلها: فيكون الفدائي كاتبا برصاصاته، ويكون الكاتب فدائيا بكلماته؛ فلا رتب ولا مراتبية، ولا قسمة عمل تقليدية، تستعير الفدائي من زوايا المخيم، وتسلم القيادة الى آخر يتحدث عن المخيم ولا يعرفه. غسان فلسطيني مناضل في النهار وفلسطيني كاتب أول الفجر يكتب محمود درويش في تقديمه للدراسات الأدبية لغسان عن غسان ما يلي: <<وفي آخر الليل... في أول الفجر كان يذهب الى كتابته <<الخاصة>>، الى كتابته الفنية. فلم يكن متاحا له أن يتخصص بشكل علني. كان يحترف الكتابة سرا. لماذا؟ لأنه فلسطيني.. ببساطة لأنه فلسطيني>> (ص 16). تعترف الجملة، في التباسها، بالاختصاص وتنكره، حيث غسان فلسطيني مناضل في النهار وفلسطيني كاتب أول الفجر. وحقيقة الأمر ان ممارسة غسان الكتابية كانت جزءا من ممارساته الأخرى، يعمل في النهار ما يسمح به النهار، ويعمل في الليل ما يقبل به الليل، ويظل المرجع واحدا، يحدد الممارسات ويميزها ويوحدها في آن. كان غسان في ليله، كما في نهاره، يطرح سؤالا قلقا: <<كيف يمكن إنتاج كتابة تستعيد الوطن>>؟ والسؤال ملتبس، قلق، حالم ومبالغ في حلمه، ربما. ولعل السؤال لا يحافظ على معناه إلا إذاقام صاحبه بكسر المعنى التقليدي للكتابة، لا بمعنى تجديد الأساليب وتهذيب اللغة عقلانيا فحسب، بل كذلك بمعنى إزالة الفرق بين الكاتب والفدائي، وإلغاء المسافة بين السياسي والأديب، وردم الهوة بين الأديب والقارئ، أي تحويل الكتابة الى أسلوب في الحياة، يصدر عن أسئلة الحياة الفلسطينية ويكون جوابا منها وفيها وإليها. لقد حاول غسان، حالماً، توحيد الاختصاص، في وجوهه كلها، في اختصاص وحيد: هو هزيمة المشروع الصهيوني. وجعله هذا التصور يساوي بين الكلمة والرصاصة وبين السياسي والأديب. ولذلك فإنه يكتب في تقديمه ل<<أدب المقاومة بعد الكارثة>>: <<ورغم ذلك فإن الكلمة تفعل أكثر من فعل النار وتستطيع أن تخترق حصارها>> (ص 43). ولأن للكلمة نارها المقدسة التي تبدد الحصار، فعلى السياسي أن يكون أديبا، أو على الأديب أن يكون سياسيا. وهذا ما قصد إليه غسان عندما كتب في دراسته عن الأدب الصهيوني السطور التالية: <<والذي لا شك فيه أن تيودور هرتزل كان أول من أعلن هذا الاتجاه (اتجاه الأدب الموجّه) بصراحة في مطلع القرن العشرين، حين نشر روايته الأرض الجديدة القديمة؛ هذه الرواية التي استبقت، عند هرتزل نفسه، الصهيونية السياسية، وكانت حافزا لقلب هرتزل <<الفنان>> الى هرتزل السياسي>> (ص 569). ويؤكد غسان الأمر ذاته في السطر الأول من مقدمته لتلك الدراسة فيكتب: <<قاتلت الحركة الصهيونية بسلاح الأدب قتالا لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسي>> (ص 467). وهذا ما يقوده الى التمييز بين الصهيونية الأدبية والصهيونية السياسية، حيث كانت الأولى سابقة على الثانية، ثم واكبتها في فعل قتالي تتكامل فيه الصهيونيتان. ومع أن غسان كان رائدا في دراسة الأدب الصهيوني فإن ريادته لم تمنعه من إسقاط بعض تطوراته على مواد الدراسة، إذ انه في توحيده المتكافئ لفاعلية الأدب والسياسة كان يعطي الكلمة الأدبية دورا يتجاوز حدودها الموضوعية، وكان يفتش في مواد الأدب الصهيوني عن برهان تصوراته الذاتية. ولعل السطور التالية تلقي الضوء على تصورات غسان: <<وربما كانت تجربة الأدب الصهيوني هي التجربة الأولى من نوعها في التاريخ، حيث يستخدم الفن، في جميع أشكاله ومستوياته، للقيام بأكبر وأوسع عملية تضليل وتزوير تتأتى عنها نتائج في منتهى الخطورة>> (ص 470). يحاور غسان الأدب الصهيوني كي يشتق من دروسه أدبا مناقضا في البنية والهدف، ومساويا له في الفاعلية والخطورة. وإذا كان غسان قد حاور هادئا فكر العدو في روايته عائد الى حيفا، وخلص الى نتيجة تقول: إن المدن المحتلة لا تفتح إلا من بوابة واحدة (إذ الالتزام المقاتل بقضية محددة يوحد، على مستوى الفكر، بين الطرفين المقاتلين على القضية ذاتها)، فإنه في حواره الغاضب مع الأدب الصهيوني وصل الى نتيجة تقول: يمكن الدخول الى عالم الأدب من بوابتين، بوابة أولى قوامها التزوير والتضليل، وبوابة أخرى جوهرها الصدق والحقيقة وضرورة الانتصار. يسمح لنا فكر غسان بالوقوف أمام نتيجتين. تقول النتيجة الأولى: يسبغ غسان على الكلمة أهمية تتجاوز قيمتها، ممارسة تساوي الممارسات الأخرى وتكون مرشدا لها؛ فالكلمة فعل ورصاصة ومرشد الى بيوت الوطن. وتقول النتيجة التالية: يمايز غسان بين الأدب الصهيوني القائم والأدب الفلسطيني المطلوب، على مستوى المضمون والبنية، ويوحّد بينهما في مدار الغاية والهدف، في مدار الأثر المطلوب: التحريض. بهذا المعنى، فإن غساناً لا يشتق مفهوم التحريض الأدبي من تعاليم الأخلاق المجردة ومبادئ الكتابة التقليدية، وإنما يشتقه من حواره الداخلي مع فكر الآخر النقيض، ومن صراعه العملي مع الآخر النقيض. وهذا ما يجعل كتاباته تتناسل في حقل المعركة، وتكون عنصرا مقاتلا في حقل المعركة. وإذا كان بعض الكتاب الفلسطينيين يتابع كتابات تقليدية عن حكايات تقليدية قوامها فلسطيني مجرد، أو فلسطيني يقتات هادئا بذكريات بعيدة، فإن غساناً القلق في إبداعه، والمبدع في قلقه، كان يشتق صيغه الكتابية من صراعه العملي ضد العدو الصهيوني. إنه اشتقاق مسكون بالتوتر والغضب، يسيطر عليه غسان تارة، وينفلت من بين أصابعه تارة أخرى. ولأن الاشتقاق يبدأ بالعدو وينتهي به، فقد كان محاصرا أبدا بمقولة محددة هي: التحريض. تجربة التحريض في رواية غسان قد تتحول فلسطين في كتابات إميل حبيبي الى مخزن للذكريات، حيث العجوز يستحضر أطياف الشباب ملتاعا، فيكتب عن ذاته التي فقدت شبابها في وطن مفقود. وقد تتحول فلسطين في لغة جبرا إبراهيم جبرا الرهيفة الى موضوع فني، فتكون فلسطين علاقة فنية في جملة علاقات فنية أخرى. لكن فلسطين في كتابة غسان، القائد الوطني السياسي، شيء آخر. لا أقدّم هنا حكما فنيا أو أخلاقيا، بل أشير الى غسان في وحدة ممارساته. يقول بريشت: <<من لم يكن واقعيا خارج الكتابة لا يمكن أن يكون واقعيا داخل الكتابة>>. وقد لا تخلو عبارة بريشت من بعض الالتباس، غير أن التباسها لا يجردها من صحتها. وغسان المقاتل كان يرى في الكتابة شكلاً من أشكال القتال. ولأنه كان مقاتلا فإنه لم يكن يكتب عن الأرض بل عن الوطن. لم يكتب غسان عن بقعة جغرافية تدعى فلسطين أو أرض الأجداد. كان يكتب عن صراع مثلوم أدى، في زمن مضى، الى ضياع الوطن، وعن صراع صحيح منفتح على المستقبل، يستعيد في قادم الأيام الوطن المفقود. وفي الحالين، كان يبتعد عن الجغرافيا والأجسام الجامدة والتعريفات السياسية التقليدية، ويكتب عن الوعي والإنسان والتاريخ. فإن كانت الثورة تستعيد الوطن المفقود فإن الثورة المستمرة وطن حقيقي يفيض عن الأزمنة. يتابع الفلسطيني في <<رجال في الشمس>> زمن الفرار، ويفضي به بشكل مستقيم الى الموت، لأن الفرار من الوطن شكل آخر من أشكال الموت؛ موت مؤجل ينزل على الفلسطيني في ساعة الحقيقة. يموت الفلسطيني الهارب لأنه لا يميز الأرض من الوطن؛ فالأرض مصدر رزق، وأما الوطن فشيء آخر. ولذلك فإن <<أبا قيس>> الذي هدّه البحث عن لقمة محتملة، يستذكر في لحظة حزن شفيف، الأستاذ سليماً الذي ذهب مقاتلا، والذي سأله أهل القرية في زمن مضى، عن الأمور التي يحسنها، لأنه لا يعرف أن يؤمّ الناس يوم الجمعة، فأجاب: <<إنني أعرف أشياء كثيرة... إنني أجيد إطلاق الرصاص مثلا... إذا هاجموكم أيقظوني، قد أكون ذا نفع>> (ص 42). تقيم الرواية تعارضا بين الوطن الحقيقي والمنفى البائس، وبين الإنسان ذي الوعي الصحيح والإنسان الضليل الباحث عن لقمة في أرض الرمل؛ أي إنها تقيم مواجهة بين زمن الفرار وزمن المقاومة. ولأن المقاومة وطن ووجه وهوية ومرآة حقيقية لجوهر الإنسان الحقيقي، فإن من لا وجه له ولا هوية ينتهي الى موت بلا كرامة. يحكم غسان على من فرّ بموت بائس، ويكون حكمه بالغ القسوة: فالفار جثة لا وجه لها سكنت على عارضة الطريق فوق نفايات مدينة تسوطها الشمس وتقرضها الرمال. يطلق غسان صيحة التحريض في ألوانها كلها. يحرّض الفلسطيني ضد أوهامه المستقرة في موت رخيص، ويحرّضه ضد مسؤول عربي يذوب تفاهة وهو يتسقط أخبار راقصة مبتذلة، ويحرّضه زاجرا وهو يرسم واقع اللجوء مفروشا بالمذلة والحرمان، ويحرّضه متوترا وهو يستذكر صورة <<الأستاذ>> الشهيد. ويبلغ التحريض درجاته القصوى في <<ما تبقى لكم>>. يعلو وحل المخيم، وينكشف الشرف المطعون، ويتكشف العجز في انتظار أم بعيدة. <<كل شيء مؤجل>>، والمعجل الوحيد هو الذل والاستكانة إليه وهو العار والقبول به... يكتب غسان واقع اللجوء بشكل يدعو الى هدمه: فينطلق <<حامد>> ويقتل عدوه، وتقف <<مريم>> وتطعن <<زكريا>>، وتعلو الشمس لتصفع المواقع الرطبة. وغسان يلتقط نبض الزمن، يرفع الصوت ويخفضه، وفقا ليقظة الفلسطيني وسباته. والفلسطيني الذي تكوّم هامدا فوق رمال النفايات، في زمن الضياع، يقف مختلفا في زمن <<أم سعد>> التي تعبر الحياة كرمح من نار. يجمّل غسان <<أم سعد>> المقاتلة ليزجر الفلسطيني التائه في حسبان شتيت، ويكتب عن <<سعد>> بدفء وحنان كي يدفع بالفلسطيني الآخر الى إحراق خيامه والانتقال الى <<الخيمة الأخرى>>، خيمة الفدائي الذي يفتتح نهاره بالانفتاح على الموت. ويأخذ التحريض شكل النشيد في العاشق، إذ الفلاح المسلح، في زمن القسّام، كيان سحري ومسحور، يتوحد مع الريح والسهول وغبش الصباح، يتحصن بأرضه فتدافع عنه أرضه ولا ينهزم. وفي العودة الى ماض وطني بقي غسان محرّضاً. وربما بالغ في التحريض حتى حوّل التاريخ الى شعر أو الى ما هو منه قريب. وغسان قد يحرّض اتكاءً على تجربة فلسطينية، أو على زمن فلسطيني بلا مسرة، دعاه في قصة قصيرة له بزمن الاشتباك. وقد يحرض اعتمادا على تجارب إنسانية متعددة جوهرها موقف إنساني كريم أو موقف لا تحتمله ذات بشرية تعرف معنى الكرامة. نذكر صورة الراعي الممتلئ إخلاصا ووفاءً وكرامة في <<الخراف المصلوبة>>، ونذكر جملة البدوي الطريد في قصة <<الصقر>>: <<ذهب ليموت عند أهله... الغزلان تحب أن تموت عند أهلها... الصقور لا يهمها أين تموت!>> (ص 436). وحين يصف غسان الرجل الباحث عن بندقيته الضائعة في قصة <<العروس>> فإنه يرفعه الى مقام الأمثولة: <<إنه محاط بشيء يشبه الغبار المضيء... ذلك الرجل المحاط بما يشبه النور... من الذي سيعيره بندقية في ذلك الطوفان الذي لا تنفع فيه إلا البندقية؟ هي وحدها التي كانت تستطيع أن تحمل الإنسان عبر ذلك الموج، الى شاطئ النجاة أو الى شاطئ موت شريف>> (ص 598). يعيد غسان قسمة الأمور، بلا انحراف: موت شريف وموت لا شرف فيه؛ فإن اختلطت الأمور عند الرجل الشريف الذي أضاع بندقيته، سقط في عالم الجنون. دلالة الموت وانقسامه تطفو مقولة التحريض بيّنة في نص غسان. والتحريض يتضمن التفاؤل، واجب الوجود، تحقق الهدف وانتصار الإرادة. وقد يدور بين حد هزيمة حصلت خطأ وحد انتصار تعد به الأيام القادمة. الحياة في أدب غسان حيز من الزمان يفتش فيه الإنسان عن موته الموائم والمطابق! يظهر الإنسان الطليق الإرادة هازئا بالقدر، إن لم يكن صانعا له. ومع ذلك فإن نص غسان في بنيته العميقة يحذف مقولات التفاؤل والتشاؤم، الهزيمة والانتصار، المبتدأ والنهاية، ليستعيض عنها بمقولات: الحياة والموت، العبودية والحرية، المخاطرة والرهان... تبدو تجربة الحياة تجربة في الموت، وتستعلن حريةُ الإنسان الحقيقية حريةً في اختيار الموت، بل تظهر الحياة كحيز من الزمان يفتش الإنسان فيه عن موته الموائم والمطابق. عدمية بلا ضفاف تحيل الى معنى الوجود وهشاشته. عدمية مطلقة السراح قوامها رفض السكينة ومطاردة الموت. يصبح البحث عن الحياة بحثا عن موت متمرد على قوانين الحياة المألوفة. في منظور كهذا تعطي مقولة الفلسطيني مكانها لمقولة الإنسان المتمرد، ويمنح الوطن اسمه الى الثورة، وتغيب ثنائية الهزيمة والانتصار من أجل ثنائية أسمى وأكثر نبلا هي ثنائية: الموت والحرية. يأخذ صراع الفلسطيني مع الوجود دلالة أخرى، فلا يكون صراعا من أجل الوطن، بقدر ما يكون الوطن في هذا الصراع مناسبة خاصة يخوض فيها المتمرد تحديه للحياة المألوفة وصراعه مع الموت. يفقد الوطن مرجعيته الأولى، وتعود المرجعية كلها الى إنسان أعلى يروّض الموت وهو يطارد الموت. تصبح مطاردة الموت الوطن الأسمى؛ فالوطن أرض محدودة القياس وحرية اختيار الموت فضاء لا حدود له. ينفي الجوهري، في هذا التصور، الواقعي، بقدر ما ينفي الصحيح مقولة: المفيد. تشير مقولة الواقعي الى ظواهر الأشياء: مخيم تعصف به الريح، وأرض مختلسة، وعدو مسلح بانتصاره ومنتصر بسلاحه؛ وأما الجوهري فيومئ الى ما لا يُرى: إرادة مشتعلة، ورغبة جامحة، وقلب حار، ومتخيل يكون فيه الإنسان صانعا للموت والحياة في آن. وكذلك حال الفرق بين المفيد والصحيح: فيومئ المفيد الى خارج الإنسان، ويقوم الصحيح في داخله؛ والمفيد غرض عارض، والصحيح قناعة فوق الأزمنة؛ ولذلك فإن الصحيح لا يقوم في الوطن، بل في ممارسات الإنسان الذي ينتمي إليه الوطن. ولعل هذه المقدمات تسمح لنا بالقول إن غساناً كان ثورياً أكثر منه فلسطينياً، غير أنه لم يصل الى الثورة إلا عن طريق فلسطين. عاش كفلسطيني تجربة الخروج المؤسية، وعاش كفلسطيني تجربة العودة المرغوبة. وارتقت به معاناته الحارقة فمزج الخروج والعودة في مقولة واحدة هي: كرامة الإنسان. أقصى حزن الخروج واشتق منه معنى الإنسان الكسير؛ ونحّى شوق العودة المرتقبة واستولد منها معنى الإنسان المتمرد. وهذا ما جعله يستبدل جمالية الموت الطليق بشعار القتال من أجل الوطن؛ فلسفة ذاتية تميز الموت المطارِد من الموت المطارَد، وصوت القدر من صوت الإنسان. لكأن حياة الإنسان، في أبعادها كلها، مواجهة للموت أو هرب منه. يصبح الموت أليفا، رفيقا وصديقا، يسكن ساعات النهار، ويكون به مرحّباً، وينسج لحظات الليل، ويعطي نسيجا باهرا في ألوانه. يجثم الموت سيدا على رحلة المهزومين في رجال في الشمس. يسفر عن وجهه شيئا فشيئا، فإن اكتملت الرحلة ظهر الوجه كاملا. موت ضروري لأن حياة الإنسان الكسير شكل آخر من الموت. حياة زائفة يبتلعها موت زائف. يبدو الوطن الضائع استعارة خارجية، ويظل المكان لمقولات: الفرار، الذل، العجز، البؤس، الموت في الحياة، الضياع، اللواذ... تبدأ الرحلة بالموت ولا تنتهي به. ولذلك تكون العبارة الشهيرة: <<لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟>> زائدة؛ فالموت ضرورة قبل أن يكون صدفة. وقد تبدو نهاية الرواية واضحة بالعودة الى فلسفة غسان التي تختصر الحياة الى موت زائف وموت جوهري، حيث تقع الصفة الأولى على <<أبي قيس>> ورفاقه، وتذهب الصفة الثانية الى <<الأستاذ سليم>>. ويظل <<أبو الخيزران>> دليلا للموت الزائف وسائسا له. رواية مغلقة ترفض الاحتمال، أبطالها المكان والزمان والموت، والبشر أقنعة. والقناع يسقط عندما يريد منه البطل ذلك. يعيد غسان قوله عن الموت في ما تبقى لكم. يقع الموت الجوهري على <<حامد>>، ويسقط الموت الزائف على <<زكريا>>. يسقط الموت طاغيا على ذليل وشى بصديقه حفاظا على حياة ذليلة قوامها الموت؛ بينما يرتقي <<حامد>> الى مقام الموت الجوهري، في تمرده على بؤس المخيم، ورحيله الى الصحراء. تبدو جمالية الموت كاملة في خطوات مراهق يجتاز صحراء مسكونة بالموت. وقد يقتل الصغير الفلسطيني عدوه الصهيوني في ساعات الصباح، دون أن تُكتب له السلامة: فدورية العدو واصلة بالضرورة إليه، في الضحى أو الظهيرة أو المساء. بل ان الرحلة تبدو، منذ البداية، رحلة الى الموت: فهي رحلة مراهق يقصد صحراء لا يعرف عنها شيئا حيث الشمس الحارقة والتباس الطريق ودوريات العدو المستمرة. تصدر جمالية الموت عن التمرد، عن الإرادة المنضبطة في الذهاب إليه. لا يذهب الصغير الفلسطيني الى أمه، وإنما يذهب الى أمه ليلتقي بالموت؛ فالموت الطليق حقيقة والأم ذريعة. ورغم اختلاف الموضوع في عائد الى حيفا، فإن غسان لا يغيّر من قوله شيئا؛ فيندس بين موت وموت واختيار وآخر. يأخذ <<سعيد س.>> الكلام كله، ويظل قناعا، لأن القول يدور بين <<دوف>>، الصهيوني المسلح، والابن <<خالد>> الذي يريد أن يكون فدائيا. كرامة تواجهها كرامة أخرى، أو موت جوهري يقابله موت جوهري آخر. ولعل تقديس غسان لمقولة الإنسان الموقف، أو الموت الجوهري، جعله يقدم الرواية الأكثر ارتباكا بين أعماله كلها. فما دام الإنسان موقفا ممارسا، والصهيوني يمارس موقفه المبدئي، فإن على الإنسان أن يحترم الصهيوني في موقفه المبدئي، بل على الفلسطيني الضليل أن يتعلم موضوع الإنسان القضية من نقيضه الصهيوني. وهذا يعني أن الصهيوني صائب، ولكن في وضع مقلوب، ويكفي أن نوقفه على قدميه، ليصبح صائبا بلا خطأ، أي ليصبح فلسطينيا، أو يكون على الفلسطيني أن يكونه. يحمل موقف غسان من الموت تجريدا لا يمكن السيطرة عليه، لأنه يتكئ على مقولة <<الإنسان الأعلى>> أولا، الإنسان الذي يقصد الموت دفاعا عن قضيته. ولما كان الصهيوني يتسلح ليدافع عن قضيته فإنه يكون بصفة <<الإنسان الأعلى جديرا. ولذلك فإن <<سعيد س.>> يرضى عن ابنه <<خالد>> الذي اختار طريق العمل الفدائي، بعد حواره مع الصهيوني المسلح. و<<سعيد>> هذا شكل من <<أبي خيزران>>، ولكن في زمن آخر، عرف معنى الموت الزائف، ولم يستطع أن يعيش معنى الموت الجوهري، فترك ابنه يمضي إليه. ولعل رواية العاشق مرآة لبحث طليق عن موت طليق، وشكل البحث يمنع الموت عن صاحبه، فتخبئه السهول والأودية ولا تصل إليه رصاصات الأعادي. يتوزع <<العاشق>> على الأمكنة، أو تتوزع عليه الأمكنة، فيرى ولا يُرى. إن <<العاشق>>، بمعنى ما، جذر من جذور <<أم سعد>> التي تقول: <<خيمة عن خيمة تفرق>>، أو <<موت عن موت يختلف>>. وربما كان انتساب المرأة الى <<العاشق>> الذي سبق يعطيها ما يليق بها من الصفات: <<تمشي بقامتها العالية كرمح يحمله قدر خفي>>، و<<تصعد من قلب الأرض وكأنها ترتقي سلما بلا نهاية>>، وتقف <<مثل شارة الضوء في بحر لا نهاية له من الظلام>>. وغسان هنا لا يمجد امرأة فلسطينية بقدر ما يمجد امرأة تجسّد معاني الكرامة؛ أي إن غسان يدخل <<أم سعد>> في عالم <<إنسانه الأعلى>>، لأنها أحسنت التمييز بين خيمة وأخرى، وأرسلت <<سعداً>> الى عالم مسوّر بالموت الجوهري. ويظل عالم غسان مثقلا بعبق الموت، في شكليه، منذ أن كتب موت سرير رقم 12 وصولا الى برقوق نيسان. يقول في القصة الأولى من المجموعة الأولى: <<فها أنذا ألتقي بالبومة الغاضبة بعد غيبة طويلة، بعيدا عن قريتي التي كانت تعبق برائحة البطولة والموت>>. وأما <<شيء لا يذهب>>، القصة الثانية، فتقول: <<باقة ورد على ضريح إنسان ميت... شيء يذهب، لقد قالت لهم إنها تريد أن يبقى لها شيء لا يذهب>>. وتقول القصة التي تحمل عنوان: <<موت سرير رقم 12>>: <<يجب أن ينطلق كل تفكير من نقطة الموت>> (ص 149). ونقرأ في قصة <<لؤلؤ على الطريق>>: <<يجب أن يموت الإنسان في مطلع عام، أو في نهاية عام، فذلك أدعى لحفظ تاريخ موته من إنسان يموت في يوم من الأيام>> (ص 156). وتحمل القصة التي تعقبها عنوان <<الرجل الذي لم يمت>>. وتنتهي قصة <<القط>> بحكمة الموت والحرية: <<لقد زحف... القط... زحف يجرر خلفه قائمتيه الميتتين الى هناك... كي يموت هناك>> (ص 256). <<لقد زحف الى هناك كي يموت هناك>>... يهدي غسان مجموعته أرض البرتقال الحزين الى قارئه المفضل، فيكتب: <<إلى من استشهد في سبيل أرض البرتقال الحزين... والى من لم يستشهد بعد>>. تأخذ الشهادة، في ضرورة تواليها، شكل البداهة اليومية؛ فهي الفعل الذي يعيد البرتقال الى طبيعته السوية، ويكون سعيدا. نقرأ في القصة الأولى <<أبعد من الحدود>>: <<أية حياة هذه! الموت أفضل منها>> ثم مع الأيام يبدأ بالصراخ: <<أية حياة هذه! الموت أفضل منها>>. (ص 287). وفي قصة لاحقة <<الأخضر والأحمر>> يعطي غسان تصوره لدلالة الموت بشكل معلن: <<إن الحياة لا قيمة لها قط إن لم تكن، دائما، واقفة قبالة الموت>> (ص 354). وقد يأخذ هذا الوضوح المأساوي سمة غنائية فيمسي وصول الموت المطارَد طقسا جميل الألوان: <<إلا أن الموت كان قد وصل، وسمعه يمشي فتخفق خطواته بالأناشيد البعيدة>> (ص 355)، و<<وصل الموت بأناشيده الى خاصرتيه فوقع>>؛ فالموت نشيد متناغم الإيقاع، والحياة أغنية مبذولة، إن لم يكتب إيقاعها الموت المرغوب ويضع لها النهاية. يصدر الموت الغنائي عن موقف يرى في الإنسان مرجعيا شاملا لا يحتاج الى مرجع خارجي يخضع له. ولذلك تقول القصة السابقة قبل أن تنفلق في نهايتها: <<لماذا لا تكون نداً قبل أن تموت؟>> (ص 360)؛ فإن جاءت النهاية المنفلقة أعطت القصة نهاية صرخة: <<لا تمت قبل أن تكون نداً... لا تمت...>>. ويتابع غسان فكره الجميل عن الموت الجميل في قصته: <<قتيل في الموصل>>. ويهدي قصته الى صديق لم يخذله، ووقع على الموت قبل أن يقع عليه الموت. نقرأ في الإهداء: <<الى صديقي م. وقبره يغتسل بالشمس الحقيقية>> (ص 379). يميز غسان بين شمس وشمس، كما يمايز موتا من موت، ويكون للحقيقي شمسه الحقيقية. ويمكن للقارئ أن يستمر مع غسان في لهاثه وراء موت مختلف، أي وراء إنسان متحقق، يحقق الجوهر الإنساني المبدع في مغامرة تدفن القدرية المتداولة وتدمر تربية أساسها الإذعان والانصياع للقدر: <<إذا أردت أن تحصل على شيء ما فخذه بذراعيك وكفيك وأصابعك>> (ص 449). هذا ما يقوله غسان في قصته: <<ذراعه وكفه وأصابعه>>. ولعل غساناً يلخص موقفه من الموت كاملاً في مسرحيته الباب، حي نقرأ السطور التالية: <<الموت! الموت! إنه الاختيار الحقيقي الباقي لنا جميعا، أنت لا تستطيع أن تختار الحياة لأنها معطاة لك أصلا... والمعطى لا اختيار فيه... اختيار الموت هو الاختيار الحقيقي، أن تختاره في الوقت المناسب قبل أن يفرض عليك في الوقت غير المناسب... قبل أن تدفع إليه بسبب من الأسباب التي لا تستطيع أن تختارها كالمرض أو الهزيمة أو الخوف أو الفقر، إنه المكان الوحيد الباقي للحرية الوحيدة والأخيرة والحقيقية>> (ص 71). يتضمن مفهوم الحرية، في الجملة الأخيرة، معنى مزدوجا. يتجلى المعنى الأول في رفض العرف والتقليد والعادة وسطوة القانون الطبيعي والاجتماعي الذي قد يحدد بداية الإنسان ونهايته، إذ يجهل الإنسان موعد القدوم وميعاد الرحيل. ويود غسان أن يعبث ببعض علاقات المعادلة: فإن كان الإنسان عاجزا عن اختيار زمن ولادته فعليه ألا يكون عاجزا عن اختيار زمن الرحيل وشكله، وذلك كي ينجو من هوان العادة وسطوة القانون. ويظهر المعنى الثاني في القول بالحرية وبممارسة الحرية فعلا. والحرية هنا نقض للعبودية والاستبداد والإكراه والإذعان. إنها فلسفة إنسانية متمردة لمتمرد يمارس فلسفته قبل أن يقول بها، مع فرق جوهري يحدد فلسفة غسان عن فلسفات مدرسية أخرى. يقول غسان في إحدى قصصه: <<لعل المدرسة هي آخر مكان يعلمنا شيئا عن الحياة>>. لما كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فإن غسان تعلم فلسفته في شوارع الحياة، وفي رحاب تجربة لاجئ فلسطيني أدرك في مرارة التجربة أن الموت فوق أرض الوطن خير من التيه في دروب اللجوء. لا مكان عند غسان لرواية مفتوحة النهاية؛ فالعالم لا يوجد إلا في نقائضه الساطعة لا مكان لوسط عند غسان، ولا مكان لرواية مفتوحة النهاية، والعالم لا يوجد إلا في نقائضه الساطعة. فيقسّم العالم في حقل التحريض الى: الوطن/ المنفى، الشرف/ العار، المخيم/ البندقية، المقاوم/ الفار، الشهيد/ الجثة المتحركة... ويقسّم العالم في حقل الموت الى: موت عارض/ موت جوهري، العبودية/ الحرية، الإذعان/ التمرد، التحدي/ الاستسلام... اعتمادا على هذين العنصرين قدم غسان ممارسة أدبية مبدعة، إذ العنصر الخارجي يحاور تجربة فلسطين ويكتبها، وإذ العنصر الداخلي يكتب عن غسان ويكتبه غسان. عنصران متمايزان في توحدهما يصوغان عملا أدبيا دائم التناقض، يواجه العنصر الخارجي العنصر الداخلي ولا يلغيه، ويقابل العنصر الداخلي التجربة الخارجية ولا يشوّهها. توازن جمالي يعطي العمل تجدده، ويمنحه جماليته. بل يمكن القول: إننا أمام ثلاثة عناصر؛ فغسان المفكر لم يكن بإمكانه تحقيق توازن العنصرين، لو لم يتحول في إطار معاناة التعبير الى عنصر جمالي يسوي العلاقة بين موضوع تاريخي معيش، وذات تعيش الموضوع التاريخي وتكتبه. لم يكن غسان يفتش عن الإبداع بل عن كتابة تحكي أحوال الوطن المفقود بشكل مبدع، والإبداع جوهر الحرية .وقوامها د. فيصل درّاج |
||||
|
|||||
اقتباس المشاركة |
10-09-2012, 12:19 AM | #30 | ||||
قوة السمعة: 452
|
رد: مكتبة الأديب الفلسطيني الشهيـــد // غســــان كنفاني
رسالة إلى غسان كنفاني من فوق التراب الى تحت التراب. والموت واحد وإن اختلف الموقع. والمدفن واحد وإن اتسع ما فوق التراب ليشمل العالم كله حيث انتشر الفلسطينيون وضاق ما تحت التراب فانغلق على جثمان وحيد. فشل القتلة وإن نجحوا في تغييبك. ونجحوا في تغييب غيرك وإن فشلوا في قتلهم. ولو كان القتلة يعلمون أنهم بقتلك يطلقونك من عالم مجنون ومتخاذل ومستسلم باع شرفه وأرضه وحقه ومبادئه بثمن زهيد أو حتى بدون ثمن، لكانوا ترددوا قبل وضع الأصابع المتفجرة في سيارتك في صباح ذلك السبت المشؤوم قبل عشرين سنة. إن انفجار الفولسفاكن حررك من هذا العالم وأبعدك عن المأساة التي نعيش وأخفى عن عينيك عيوب الحاضر وجرائمه وانهزاماته. فأغمضت عينيك على صورة جميلة من صور النضال والإيمان والثورة والقيم. وفي عشرين سنة خبت هذه الصور، وبهتت، وأخذت مكانها صور قاتمة وتعيسة. كم توهمت، بعد استشهادك بعشرة أيام، أن وحشية العدو التي نالت منك لم تنل مني تماما، فبقيت أتنفس وأتحرك وأرمش، وإن خف السمع والبصر الى ما يقارب الزوال. ولكني، بعد عشرين سنة من اقتراف هاتين الجريمتين، أغبطك وأغبط مصيرك ولا أغبط مصيري. ماذا كنت ستسمع يا غسان، وماذا كنت ستشاهد، لو كنت تشاركنا الجلسات هذه الأيام؟ كنت ستسمع أن الصهيونية ليست حركة عنصرية استيطانية معادية، بل هي حركة سياسية تقف في وجه حركة سياسية مقابلة، كلاهما من طينة واحدة: تدافع الأولى عن <<حقوق>> جماعة (اليهود) وتدافع الأخرى عن حقوق جماعة ثانية (العرب)، تماما مثلما نص وعد بلفور قبل استشهادك بخمس وخمسين سنة: إن وطنا قوميا لليهود يقام في فلسطين بشرط ألا يمس بمصالح <<الجوالي>> المقيمة في ذلك البلد؛ وكما كان <<السير>> مارك سايكس، أحد بطلي الاتفاقية المشؤومة، يزعم أن الصهيونية والقومية العربية صفحتان لورقة واحدة. وكنت ستسمع أن <<إسرائيل>> بلد مثل سائر البلدان، له حقوقه وأمنه وحدوده ووجوده ومصالحه. وما علينا إلا أن نعترف له بذلك حتى يكف عن التعدي علينا. ف<<إسرائيل>> أصبحت <<جاراً>> ولم تعد عدواً. وللجار حقوق. وما الجدار الذي يفصل بيننا إلا جدار وهم وخيال نصبه التعصب والجهل في قرن من الزمان. وكنت ستسمع أن فلسطين ليست فلسطين؛ أن نصفها اسمه إسرائيل، ونصفها الآخر اسمه الضفة الغربية وقطاع غزة. وكنت ستسمع أن القضية الفلسطينية هي قضية ما سقط عام 1967 من أرض فلسطين، وأن استعطاء حكم ذاتي يجعلنا أحرارا في شؤون الصحة وجمع القمامة وفتح الدكاكين وتعليق اليافطات ويغنينا عن المطالبة بتحرير محبوبتك عكا والعودة الى محبوبتي طبريا. بل ان قضية فلسطين امّحت وذابت في ما أصبح يسمى <<قضية السلام في الشرق الأوسط>>. وكنت ستسمع أن التفاهم بالحسنى، أو الاتفاق بالتراضي، هو شرف <<الثورة حتى النصر>>؛ وأن شرف الجلوس مع مندوبي العدو في هذا البلد الأوروبي أو الأميركي أو الآسيوي أو ذاك، في ظل الرعاية الأميركية <<الصديقة>>، هو النصر بحد ذاته. فقد فاتك أن أميركا لم تعد دولة استعمارية أو إمبريالية وعدوة للشعوب، بل أصبحت صديقا عزيزا حاميا لحقوقنا وجنديا مخلصا لاستعادة حقوقنا. لم يعد هنري كيسنجر <<عزيزا>> وحده، بل أصبح الطاقم السياسي الحاكم في أميركا كله عزيزا على قلوبنا. لو كنت لا تزال حياً يا غسان لكنت تشاهد أصدقاء يسيرون في جنازة الحق الفلسطيني مزهوين بالانتصارات الوهمية لو كنت لا تزال حياً يا غسان لكنت تشاهد وتسمع أصدقاء مشتركين لك ولي (وبعضهم أصابته قنابل العدو مثلما أصابتك وأصابتني) يقولون هذا الكلام وأكثر، ويسيرون في جنازة الحق الفلسطيني مزهوين بالانتصارات الوهمية. لقد سقطت الأقواس حول اسم <<إسرائيل>> وأصبح الاستمرار في استعمالها غباءً وتحجراً وسماجة لا تليق بنا ونحن نجالس الإسرائيليين ونستعطفهم ونتملقهم ونغازلهم ونمنحهم بركات الشرعية. والصحيح أن الأقنعة سقطت عن وجوههم هم بمجرد إسقاطهم تلك الأقواس. ألا توافقني، بعد هذا، أن مثواك تحت التراب أرحب وأرحم من منازلنا الفخمة وطائراتنا الخاصة وعروشنا والبسط الحمر تحت أقدامنا؟ لكنه ذنبك أنت يا غسان، أنك أتحت لهم أن يغتالوك. ركبت الفولسفاكن. ولم تكن تركب المرسيدس 500 المصفحة، تحيط بك حراسات مسلحة تفتح لك الطرقات وتغلقها عن غيرك. تماما كما كان الذنب ذنبي حسب رأي أحد كبار قادتنا العباقرة الذي صرخ مستنكراً أن أفتح المظروف المفخخ، الأمر الذي جعل القنبلة تنفجر بين يديّ. قال: <<أليس عنده سكرتيرة تقوم بفتح الرسائل عنه>>؟ وكأنه أراد أن يقول: <<لتبتر أصابع السكرتيرة، أما أصابعه فلا>>. فالموت للمساكين وليس للمسؤولين! وهكذا تتحول المسألة من جريمة صهيونية قذرة ضد الفكر الفلسطيني الى خطأ نقترفه نحن وندفع ثمنه حياتنا أو بعض حياتنا. لقد هددوك، وحذرك <<العارفون>> قبل أيام من الجريمة واستخففت فنالوا منك. وهددوني، وحذرني بعض <<العارفين>> قبل أيام من الجريمة فسخرت ولم أتعظ منك، ونالوا مني. وهكذا كانت الحال مع الكثيرين غيرنا، رحم الله الموتى وشفى الجرحى والمصابين وغفر للمتخاذلين وهداهم. إن وحش الموت، كما يقول المثل الدنماركي، يلتهم الأدسم بين ضحاياه. ترى، هل كانت لدينا رغبة خفية في التنافس والتدافع أمام الوحش ليختارنا نحن من بين آلاف المقاتلين بالبندقية أو بالقلم؟ لقد أراحك الموت من سؤال سخيف كان المحقق سيطرحه عليك مثلما طرحه عليّ وأنا أستلقي على سريري في المستشفى بين الموت والحياة: <<ومن تعتقد أنه وراء الجريمة؟ هل هناك خصومة بينك وبين جار أو زميل أو منافس؟>> ولو كانت لديّ قدرة على الكلام لكنت أجبت: <<نعم. هناك خصومة بيني وبين العقل والمنطق عقل هذا الزمان ومنطقه اللاعقلاني واللامنطقي>>. يبدو أنهم هم العقلاء والمنطقيون، ونحن كنا المغفلين. المغفل فقط يرث الرضى الذاتي، وراحة الضمير، وشرف النضال. وهم يرثون كل شيء آخر رنان، من لقب الى ذهب. أنت وأمثالك تعيشون في المخيم وتناضلون في الخندق وتشربون الماء الآسن وتقتاتون الفتات. وأما وجهاء النضال الكلامي والخطاب السياسي المهرجاني ومحترفوه فقد جنوا ثمار ذلك النضال، ألقابا فخمة تحتضن أسماءها، ومباني ضخمة تنطح بأعناقها السحب، ومواسم الترف ومهرجاناته وأعراسه التي قصّرت عنها ليالي الألف ليلة وليلة. أخي العزيز غسان: لقد متّ مرة. ونموت نحن كل يوم ألف مرة. أكاد أسمعك تسأل: أليس من أخبار غير هذه التعاسات؟ نعم. فايز وليلى يرفعان اسم فلسطين واسم والدهما عاليا، بكفاءاتهما ونشاطاتهما ونجاحهما. وآني وفية لك في وفائها لقضية زوجها التي أصبحت قضيتها، مثابرة تنجز ما يعجز عنه العشرات. ورفاقك على إيمانهم وسلاحهم وأصالتهم. وجبهتك صامدة بالرغم من الإغراءات التي تستميل الضعاف وتشد الأقوياء. و<<الحكيم>> القائد يزداد مرضه قسوة وتزداد عزيمته قوة. وكتبك ورواياتك وقصصك تجتذب القراء المعجبين طبعة بعد أخرى. ومجلة الهدف تتحدى وتواصل الصدور. والواحات النادرة في صحارينا الواسعة لا تزال خضراء، وينابيعها لم تجف، وإن أعرض الكثيرون عنها ولم يعد ماؤها الزلال يروي لأن عطشهم هو الى نوع آخر من المشروبات. وبكلام آخر: لم تغب الشمس بالمرة، وإن كانت العتمة تلف حياتنا. فلا بد للشمس أن تشرق ثانية. إن دماء الشهداء، الأموات منهم والأحياء، ستظل تشع نورا يضيء لأجيال قادمة. وحده هذا الأمل يمنعنا من الاستسلام/ الانتحار. () رئيس تحرير الموسوعة الفلسطينية منذ العام 1982، ورئيس مجلس إدارتها منذ 1988. له حوالى عشرين مؤلفاً في التاريخ والسياسة. أصيب برسالة ملغومة بعد استشهاد غسان كنفاني بعشرة أيام، أثّرت في سمعه وبصره .قبيل استشهاده د. أنيس صايغ |
||||
|
|||||
اقتباس المشاركة |
الكلمات الدلالية (Tags) |
غساان كنفاني |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|